الحماية الدولية للفلسطينيين
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 13 مايو 2024 - 6:50 م
بتوقيت القاهرة
مع ولوج العدوان الإسرائيلى الخامس على غزة والضفة شهرة السابع، وسط تعثر مفاوضات التهدئة. وفى ظل استعصاء حل الدولتين، وتعذر حصول فلسطين على الاعتراف الدولى أو العضوية الكاملة بالأمم المتحدة؛ برأسه يطل الرهان على استراتيجية توفير الحماية الدولية للفلسطينيين.
لاح مصطلح «الحماية الدولية»، للمرة الأولى، عبر معاهدة «وستفاليا» عام 1648، حينما تضمنت نصا صريحا بشأن حماية الأقليات الدينية. لاحقا، عمد النظام الدولى إلى تاسيس منظومة متكاملة لحماية الحقوق السياسية وحقوق الأقليات، لا يرتهن مصيرها بتحولات الأوضاع الداخلية للدول.
عرّف القاموس العلمى للقانون الإنسانى، الحماية الدولية بأنها «الإقرار بأن للأفراد حقوقا، تلتزم بها السلطات التى تمارس السلطة عليهم. كما تعنى الدفاع عن الوجود القانونى للأفراد، إلى جانب وجودهم المادى. ومن ثم، تعكس فكرة الحماية جميع الإجراءات المادية، التى تمّكن الأفراد المعرضين للخطر، من التمتع بالحقوق والمساعدة المنصوص عليهما فى الاتفاقيات الدولية». وقانونيا، يتم تطبيق الحماية الدولية، عبر نشر قوة دولية فى مكان ما، بغية توفير الحماية لسكانه. كمثل: قوات اليونيفيل فى جنوب لبنان، والقوات الدولية فى دارفور، أو أفغانستان وغيرها. ويتطلب توفير قوات الحماية، مسلحة كانت أو غير مسلحة، تقديم طلب إلى مجلس الأمن، لاستصدار قرار أممى بهذا الصدد.
حتى بداية القرن المنصرم، لم يكن هناك نص قانونى يكفل الحماية للمدنيين. وجاءت لائحة لاهاى للعام 1907، لتنص فى مادتها الخامسة والستين، على تنظيم العلاقة بين المحتل وسكان الأراضى المحتلة. وتكللت الجهود الدولية بإقرار اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب. حيث اعتبرت أول تنظيم قانونى، واتفاقية دولية تختص بحماية المدنيين فى أثناء النزاعات المسلحة الدولية. وتفرض الاتفاقية على الأطراف المتنازعة، التمييز بين المقاتلين والمدنيين، الذين يشملون جميع المدنيين المقيمين على إقليم الدول المتحاربة والمدنيين المقيمين فى الأراضى المحتلة. ويعتبر شخصا مدنيا كل من لا يشترك «يقاتل» فى الأعمال العدائية بشكل مباشر. أما البروتوكول الثانى الملحق بها لعام 1977، فتناول فى الباب الرابع منه، حماية السكان المدنيين فى النزاعات المسلحة غير الدولية، أو ما يسمى «حروب التحرير الوطنية».
وبناءً عليه، فإن المدنيين المشمولين فى الحماية العامة، يجب أن يكونوا مستثنين من الأخطار الناجمة عن العمليات العسكرية، دفاعية كانت أم هجومية. وفى أى إقليم تشن منه، بما فى ذلك الإقليم الوطنى لأحد أطراف النزاع، والواقع تحت سيطرة الخصم، سواء فى البر، البحر أو الجو. ولا يجوز أن يكون المدنيون محلًا للهجوم، ويجب حمايتهم ضد الهجمات العشوائية، التى تطال الأهداف العسكرية، الأشخاص المدنيين والأعيان المدنية، دون تمييز. وينص القانون الدولى الإنسانى على أن المدنيين الخاضعين لسيطرة القوات المعادية يجب أن يعاملوا معاملة إنسانية فى جميع الظروف، ودون أى تمييز ضار. وتتّسع حماية المدنيين لتشمل الأفراد الذين يحاولون مساعدتهم، لاسيما الوحدات الطبية، المنظمات الإنسانية، وهيئات الإغاثة، التى توفر اللوازم الأساسية مثل الغذاء، الملبس، الإمدادات الطبية. ويتعين على الأطراف المتحاربة السماح لهذه المنظمات بالوصول إلى الضحايا. وتُلزم اتفاقية جنيف الرابعة، وبروتوكولاها الإضافيان، الأطراف المتنازعة بتسهيل عمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
تستوجب جرائم الإبادة، التى تعكف قوات الاحتلال الإسرائيلى وقطعان المستوطنين المسلحين على اقترافها بحق الفلسطينيين، توجههم فرادى، أو كفلسطين، العضو المراقب بالجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى مجلس الأمن، طلبا للحماية الدولية. دون أن يفقد الفلسطينيون حق المقاومة. ويرتكن هكذا تحرك على عدة مرتكزات قانونية.
فلقد تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 120/37 لعام 1982، الذى يدعو إلى اتخاذ إجراءات فاعلة لضمان سلامة وأمن اللاجئين الفلسطينيين فى المناطق المحتلة. وقد جرى تأكيد هذا القرار دوريا منذ العام 1993. رغم ذلك، لم يتم تقديم أية معالجة للفجوات، التى تشكل عقبة فى طريق إقرار حقوق الانسان والحريات الأساسية للاجئين الفلسطينيين بمناطق شتاتهم الحالية. وفى ديسمبر 1988،أصدرت الجمعية العامة القرار رقم 43/131، الذى يتعلق بتحديد مفهوم المساعدة الإنسانية ووجوب توفيرها فى حالات الطوارئ. حيث أكد أهمية توفير المساعدات الإنسانية للفلسطينيين، باعتبارها أحد أشكال الحماية الدولية.
فى عام 2005، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة مبدأ «المسئولية عن الحماية»، الذى أكد مسئولية المجتمع الدولى الأوسع عن اتخاذ تدابير حاسمة فى الوقت المناسب، لحماية المدنيين المعرضين للخطر. عندما يتم التأكد من أن دولتهم، التى تتحمل المسئولية الأساسية عن حماية مواطنيها «فشلت بشكل واضح» فى أداء واجبها. إذ يمكن عندئذٍ اتخاذ تدابير قسرية مناسبة ومتناسبة، مصرح بها، من قبل الأمم المتحدة، كملاذ أخير. كذلك، أكد مفهوم المسئولية عن الحماية، قدرة وسلطة مجلس الأمن على التدخل فى المواقف، التى عانى فيها سكان دولة ما من اعتداءات على كرامتهم وحقوقهم، أو تعرضوا لتهديدات من هذا القبيل. وبموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، يُمنح مجلس الأمن سلطات بعيدة المدى لاتخاذ الإجراءات التصحيحية اللازمة.
صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2018، لصالح قرار يكفل توفير الحماية الدولية للفلسطينيين. وفى مارس 2024، أكد بيان لمجلس الأمن الدولى، على أهمية حماية المدنيين الفلسطينيين بغزة، فى ظل ما يشهده القطاع المحاصر من إبادة ودمار. إذ «تم حث الأطراف على الامتناع عن حرمان المدنيين فى غزة من الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية». كما أعرب مجلس الأمن عن «قلقه البالغ من أن يواجه سكان القطاع، الذين يتخطى عددهم مليونى نسمة، مستويات مثيرة للقلق من انعدام الأمن الغذائى الحاد». وكرر أعضاء المجلس مطالبتهم الأطراف «بالسماح، بتسهيل وتمكين توصيل المساعدات الإنسانية، بصورة فورية، سريعة، آمنة ومستدامة، بدون عوائق وعلى نطاق واسع، إلى المدنيين الفلسطينيين بجميع أنحاء قطاع غزة». وحثوا إسرائيل على إبقاء المعابر الحدودية مفتوحة أمام دخول المساعدات الإنسانية للقطاع، وتسهيل فتح معابر إضافية لتلبية الاحتياجات الإنسانية على نطاق واسع، ودعم الوصول السريع والآمن لمواد الإغاثة إلى جميع سكان غزة. وانتقد المجلس استهداف قواقل الإغاثة.
أما وقد تم إنشاء إسرائيل بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، رقم 194 لسنة 1947، يغدو رفضها الالتزام ببنود ذلك القرار مقوضا لشرعيتها. كما تبقى الأمم المتحدة مسئولة، بشكل مباشر، عن معاناة ضحايا هذا القرار وتجريدهم من ممتلكاتهم. ومن المنظور الإسرائيلى، يجب أن يكون تطبيق مسئولية الحماية على فلسطين أمرًا مرغوبًا فيه. فليس منطقيا قيام الدولة، التى يتعين عليها حماية اليهود من الاضطهاد، بممارسة اضطهاد الآخرين. ونظرا لوجود اللاجئين الفلسطينيين أو بعضهم فى أماكن تتعرض لنزاعات مسلحة، تخضع للسلطة العسكرية الإسرائيلية، فقد تكفل القانون الدولى الإنسانى بتأمين الحماية الدولية لهم، من خلال اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
رغم توفر الأطر القانونية والحقوقية، الكفيلة بتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطينى؛ والممثلة فى الإعلان العالمى، بالإضافة للعهدين الدوليين المتعلقين بالحقوق السياسية والمدنية، والحقوق الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية؛ يبقى مصير تلك الحماية، بل والقضية الفلسطينية برمتها، مرتهنا بالمفاوضات السياسية المجافية للشرعية الدولية. فرغم شمولية الحماية، التى تمنحها اتفاقيات جنيف لعام1949، وبروتوكولاها الإضافيان للعام 1977، للمدنيين؛ تكمن المشكلة فى تطبيق تلك الأطر القانونية الدولية. علاوة على ذلك، ثمة قصور فى قواعد القانون الدولى الإنسانى، يتصل بتوضيح مفهوم النزاعات المركبة، أو المختلطة، والقواعد الناظمة لها؛ إضافة إلى وجود خلل فى آليات تطبيق ذلك القانون. ففى حين لا تزال أحكامه غير ملزمة، لجهة النزاعات المسلحة غير الدولية. يظل تطبيق قواعده مرتهنا بقرارات مجلس الأمن الدولى؛ الخاضع، أصلا، لحسابات وأهواء الدول العظمى، المحتكرة لحق «الفيتو».