المدن الجريحة.. أي درس نستخلصه؟
العالم يفكر
آخر تحديث:
الأحد 13 يوليه 2025 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب عز الدين عناية، يدعو فيه للاهتمام بالثقافة وقيم التعايش بين أفراد المدن التى تعانى من التدمير والفوضى كوسيلة لإعادة بناء النسيج الحضارى والإنسانى لهذه المدن.. نعرض من المقال ما يلى:
لئن تلخص فخر الملك الآشورى أسرحدون، فى القرن السابع قبل الميلاد، وهو يصور زحف جيشه الظافر بقوله: «أمامه مدينة وخلفه خراب!»، فإن مهام المنشغلين بحطام المدن فى عالم اليوم، فى الشرق أم فى الغرب، تقف على نقيض منجزات جيش أسرحدون: «أن بين أيديهم خرابا، وأن عليهم أن يرمموا ما ألم بتلك المدن». يأتى الأمر صونا لإنسانية البشر وحفاظا على رصيد الأخلاق الكونية المستنزف.
وعلى ذلك الأساس، لا يبدو سؤال «ما العمل؟» فى أيامنا، أمام اتساع رقعة انخرام المدن، وتزايد أعداد المهاجرين، وضيق السبل، وانسداد الآفاق، سؤالا سياسيا، كما دأبت الأدبيات الاستراتيجية أن تلحقه بأيديولوجيا معينة أو بشخصية كاريزمية محددة؛ بل هو سؤال ثقافى فى الجوهر، يتلمس سبل ترميم نسيج المدن، الرمزى والقيمى والخلقى، لما لحقه من اهتراء.
فمن طبيعة الثقافة الرشيدة، وهى بحمولتها ثقافة مسئولة، السعى الجاد إلى تقليص مساحة الطيش والتهور، والتشبث بالحفاظ على إنسانية الإنسان والنأى به عن العدمية والانتحار. يستحضرنى وأنا أتأمل موضوع الثقافة والإعمار وما بينهما من وشائج وصلات، فى مقاومة الامحاء والاندثار ذلك الإخبار البليغ الوارد فى الذكر الحكيم عن خليل الرّحمن ﴿وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت﴾، وهو يجابه بوادٍ غير ذى زرع مخاطر الفناء، ومع ذلك يصرّ على التقعيد والتشييد والرفعة. والهول الذى يجتاح المدينة فى عالمنا أمر جلل، تلك المدينة التى خرجت من رحم تراكمات حضارية عميقة وأطوار زمنية مديدة. باتت المدينة الحديثة وما تنطوى عليه من مدنية، وحقوق، وأمان، ورفاه، عرضة للطمس، وهو طمس من صنع أيدى البشر، لا بفعل الطبيعة العمياء الغاضبة، كما هو الشأن مع ما جرى لمدينة بومبى الإيطالية - 79 ميلادية - التى غمرتها حمم بركان الفيزوف وطمرت ألوفا من أهليها تحت طبقة من الركام بلغ سمكها ستة أمتار - كانت بومبى فى ذلك العهد تعد عشرين ألف نسمة -، حتى أن غبار البركان وصلت آثاره إلى ألبانيا واليونان وإلى مشارف أرض سوريا كما قيل.
حتى الشياطين يحتاجون إلى دولة
ففى عصرنا باتت جملة من المخاطر المحدقة بالمدينة نابعة من أحضانها، فى ظل فقدان بوصلة التحضر وانفلات التوحش. فى مقطع شهير من نص سطره الفيلسوف الألمانى إمانويل كانط بعنوان «السلام الدائم»، يطالعنا بقوله: حتى الشياطين (والمراد الأفراد الأنانيون للغاية) يحتاجون إلى دولة، وعلى المستوى الدولى يحتاجون إلى جمهورية عالمية، بشرط أن يكون بحوزتهم عقل، أى عقلاء فى نظرهم وحكماء فى تصرفهم. ففرص العيش والتعايش فى المدينة تتراجع، بحسب تقديرات كانط، كلما تقلصت مساحة التعقل وتقدمت نوازع الغرائز. ولربما أخطرها العنف المنفلت، بذريعة المشروعية والصوابية، وذلك لما لعواقب إشهار السيف من آثار وخيمة. ولعل عواقب سل السيف التى طالما حذر منها السيد المسيح (عليه السلام) فى قوله: «رد سيفك إلى غمده! فإن الذين يلجئون إلى السيف، بالسيف يهلكون» (متى26: 52)، قد بتنا نعيش وقائعها وآثارها داخل حيز المدينة المعولمة التى أضحى الجميع يقطنونها ويتقاسمون المأوى فيها.
وحين يطال المدينة الخراب، بماذا يتسنى التوقى؟ العقل والعقلانية.. الشرع والمشروعية.. الحق والحقوقية؟ وهى جميعها أصول حرص الإنسان الحديث على أن يستلهم منها ضوابطه داخل المدينة، لكن البين أنها لم تسعفنا كثيرا فى الحفاظ على كياننا بعدما عاد التوحش ينبع من دواخلنا، ومن ثم لن تحمى شرائعنا المدينة ما لم نتعمد بمعانيها ودلالاتها. فاللاعنف ليس ضعفا أو ضربا من الوهن، بل هو إقرار واع بموالاة خيار الإعمار، ولا يستوى من يعمر مع من يدمر.
وحين نرى استشراء الفوضى فى المدن، نكرر السؤال دائما: ما الذى بوسع الثقافة فعله حيال أزمات المدن المستعصية؟ وقد أمست فضاءات العيش المشترك فضاءات هشة وعرضة للخراب المتواصل. البين أن يكون ملقى على عاتق الثقافة، فى تلك الأوضاع وفى تلك الأحوال الحرجة، مهمة التأسيس لتعاقد خلقى وإيلاف قيمى جديدين يرممان تصدعات الثقة بين الناس بعدما تآكلت، وكادت تحل محلها الريبة المستدامة. ولكن، على الرغم من هذا الجو القاتم - وبعدما تقلصت ثقة الناس فى أمراء الحرب، وفى المترفين، وفى الغوغائيين، وفى مدعى الحلول السحرية - لا يعدم فى الناس إصغاءهم إلى أصوات الرشاد المتأتية من عوالم الثقافة، وكأنها رصيد الثقة المتبقى فى ظل الاضطرابات العاتية.
ما يسرى على المدن يسرى على البشر
الملاحظ أن بثقافة مهترئة لا يمكن تضميد كدمات مدن جريحة، إذ يسرى على المدن ما يسرى على البشر فرادى وزرافات. فقد تبدو المدن عرضة لأزمات مستفحلة وأمراض مستعصية، كما هو الشأن بالنسبة إلى البشر. لأن المدن الجريحة تبحث عن أبجدية جديدة، وخطاب مغاير، يقطعان مع اللغة الجوفاء والمفاهيم الخاوية اللتين طالما هتكتا نسيج الاجتماع. ولأن المدن أساسها قائم على البشر وليس على الحجر، فهى تبحث دائما عن استعادة عافيتها من خلال رؤى صادقة لا وعود زائفة.
إذ للبشر قدرات هائلة فى إخراج المدن مما يتهددها من حالات الموات والاندثار. وفى الشرق أم فى الغرب، وقديما أم حديثا، أحرقت مدن وهدت مساكن على رؤوس ساكنيها، ولكنها ما فتئت أن نهضت وعادت زاهية عامرة. قرطاجة القديمة وبرلين الحديثة، مدينتان شاهدتان على تلك الفواجع، وعلى قساوة ذلك الهول، وعلى ذلك الجنون الذى يفتك بالمدن والبشر، ولكن دبت فيهما الحياة مجددا لأن إرادة الناس لم تكسر. وقد يبنى الناس ما هو أفضل من السابق حين يعود الرشد ويتراجع الصلف وتحضر الحكمة، بيد أن المدن تندثر وتقع فريسة الخراب حين تتحطم إرادة الناس.
وحتى لا يأخذنا الحديث عن وعود الثقافة بعيدا نحو آفاق مجردة، نشدد على أن الثقافة ليست مقولات جامدة، قائمة على صياغات معقدة ولغة مجردة، يفقه أبجديتها من أوتوا حظا عظيما من الدراسة والتعلم، كما يتصور البعض؛ وليست بالمثل منحصرة فى صياغات ناعمة فنية وأدبية، كما يعبر عنها كتاب الرواية وصناع الفنون بأصنافها فى حقبتنا الراهنة. فليس من حظ المهاجر المغاربى نحو إيطاليا نصيب وافر من ذلك. فمنذ عقود أرصد فحوى ثقافة المهاجرين ودلالاتها، الوافدين من أقطار عربية مختلفة نحو إيطاليا، والسواد الأعظم منهم من الشغالين والهائمين ممن أتوا إلى إيطاليا خفافا، وكانوا فى بداية مشوارهم أقرب إلى المحرومين والجياع منه إلى المترفين والميسورين. لذلك لا تربطهم روابط متينة بمفاهيم الثقافة التى تصنعها النخبة. ولو أحصيت أعداد الطلاب والشعراء والكتاب والدارسين والمدرسين فى أوساطهم لظفرت بالنزر القليل، مع ذلك يلوح جليا كفاحهم وإصرارهم على إنماء رصيدهم، اللغوى والحضارى والقيمى والروحي، والحرص على توريثه لأبنائهم على أمل الظفر بمقام كريم ولو بعد حين. تجرى العملية تلك فى وسط غربى متطور، وطارد أحيانا، وفى عالم رمزى يحتد فيه الصراع بين عوالم الثقافة الرمزية، مع ذلك يسجل المهاجر الشريد فتوحات لافتة، وقدرة بينة على إنماء مقدرات رأسماله الرمزى، الذى يعجز عنه أدعياء الحوار الحضارى والحوار الدينى والتثاقف والمثاقفة من دهاقنة الإنتلجنسيا.
ولكن ما الدرس الذى نستخلصه مما قد تجابهه المدن من مصاعب ومما قد يصيب الحواضر من أدواء وعلل؟ الملاحظ أن جدلية الصلاح والفساد تتحكم بمصائر المدن، فكلما اصطبغت المدينة بصبغة فاضلة، بدت معمرة وزاهرة، وبالتالى ليس هناك أعمار للمدن، أى نهايات محتمة، وإنما هناك بدايات متجددة.