فتح الملفات
محمد عبدالمنعم الشاذلي
آخر تحديث:
الخميس 13 أغسطس 2020 - 8:25 م
بتوقيت القاهرة
جدل متكرر ثار مجددا منذ فترة وجيزة بين المطالبين بفتح ملفات الاستعمار وكشف جرائمه وتسليط الضوء عليها وعلى الآثار الناجمة عن هذه الجرائم التى امتدت لسنين طويلة بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية ووصلت آثارها إلى وقتنا الحاضر.
قوبل هذا المطلب بالرفض من قبل فريق آخر يرى فى ذلك إهدارا للوقت والطاقة فى اجترار ذكريات قديمة وإساءة للعلاقات مع دول صارت صديقة، وتربطنا بها مصالح مطلوب دعمها لتوطيد النمو الاقتصادى والاجتماعى. لعل من الأسباب التى أطلقت هذا الجدل تصريحات الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون فى شهر سبتمبر 2018 اعترف خلالها على مسئولية جيش الاحتلال الفرنسى فى الجزائر فى احتجاز المواطن الفرنسى الناشط ضد الاحتلال Maurice Auolin وتعذيبه حتى مات سنة 1957، وطالب الرئيس الفرنسى بفتح تحقيقات فى التجاوزات التى ارتكبها الطرفان أثناء حرب التحرير الجزائرية!
باستثناء الاستعمار الإسبانى الذى انتهى فى العالم الجديد فى العشرينيات من القرن الـ19 فإن نهاية الاستعمار فى العالم القديم كانت فى الستينيات من القرن العشرين.
إلا أن انسحاب جيوش الاستعمار فى آسيا وإفريقيا وإعلان قيام دول جديدة لها أعلام وأناشيد قومية ونالت عضوية الأمم المتحدة لم يكن نهاية للهزيمة الإمبريالية بل ظلت الهيمنة والسيطرة الاقتصادية والسياسية للدول الإمبريالية، وهذا ما عبر عنه الإفريقى العظيم كوامى نكروما ــ أول رئيس لغانا المستقلة ــ فى رؤيته التى عبر عنها فى كتابه الرائع «الاستعمار الجديد آخر مراحل الإمبريالية» الذى كشف فيه استمرار الهيمنة على مقدرات الدول الوليدة. أثار الكتاب ضجة هائلة حتى أن الخارجية الأمريكية قدمت مذكرة احتجاج شديدة إلى حكومة غانا وسحبت المعونة الاقتصادية التى كانت تقدمها لها. ولم تلبث وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أن دبرت انقلابا على نكروما فى عام 1967 بعد شهور قليلة من صدور الكتاب فى عام 1965.
***
ضغطت الإمبريالية ضغوطا شديدة لإبقاء روابط مع مستعمراتها السابقة سواء من خلال منظمة الكومنولث البريطانى أو المنطقة الاقتصادية الفرنسية كما لعبت أجهزة المخابرات دورا كبيرا فى إفساد النفوس وتأليب القبائل والتيارات السياسية ودعم النظم الرجعية والتآمر على القوى الوطنية، وحققت نجاحات كبيرة خاصة فى إفريقيا بسبب شيوع القبلية والفقر.
ومع بداية الثمانينيات من القرن الماضى بدأت تظهر الشكوك لدى جيل الشباب والمثقفون فى جدوى الحكم الوطنى فى إفريقيا مع استمرار الفقر والمرض وتفشى الفساد، وتكرست هذه المشاعر مع مظاهر غلية فى الفجاجة مثل فساد حكم «موبوتو» فى الكونغو والحرب الأهلية فى نيجيريا وحكم «سياد برى» فى الصومال الذى انتهى بتحلل الدولة وتفسخها والحرب الأهلية فى السودان وسيراليون وليبيريا وأخيرا الحرب الأهلية الكارثية فى رواندا. فى ظل هذه الأجواء المتردية بدأت تظهر أصوات بين إعلاميين ومثقفين أفارقة تتساءل ألم يكن استمرارنا خاضعين للاستعمار أفضل لنا؟ ألم يكن حكم البلجيك أفضل من حكم «موبوتو» ولو استمر هل كانت ستقع المذابح فى رواندا؟ ألم يكن حكم إيطاليا أفضل من حكم «سياد بري«؟ أولم يكن حكم بريطانيا أفضل من حكم «عيدى أمين«؟ وصدمنا أخيرا فى لبنان عندما تقدم ستة وثلاثون ألف لبنانى بوثيقة إلى الرئيس الفرنسى تطالبه بعودة الانتداب الفرنسى على لبنان عقب انفجار بيروت وسنوات من الحروب والدمار وعدم الاستقرار فى لبنان.
***
لعل ما وصلنا له من عدم ثقة فى النفس والبحث عن وصاية نتوهم أن تضعنا على الطريق القويم هى أهم الدوافع التى تدعونا إلى فتح ملفات الاستعمار والبحث عما قيل فيها من فواجع، ليس لنكأ الجراح وفتح الآلام ولكن لكشف المعايير المزدوجة والمغالطات التى دفعت السيد ماكرون فى عام 2018 إلى المطالبة بالتحقيق للتعرف على الجرائم التى ارتكبها الطرفان أثناء حرب التحرير الجزائرية، فيضع مليون شهيد جزائرى كانوا يحاربون من أجل حريتهم فى كفة وحفنة من الجنود الفرنسيين قتلهم أو اخطتفهم المجاهدون فى كفة موازية، متناسيين أنهم اعتبروا الفرنسيين الذين فعلوا نفس الشىء مع المحتلين الألمان أبطالا.
أصبحنا فى حاجة ملحة لمراجعة التاريخ حتى نرد لأنفسنا الاعتبار من الذى أقنعنا بأنه إنما جاء لانتشالنا من البربرية وتحديثنا وتحمل عبء الرجل الأبيض. علينا أن نراجع التاريخ الذى استقى من الأرشيف التركى تارة ومن الأرشيف الفرنسى تارة ومن الأرشيف البريطانى تارة، وألا نكتب تاريخنا اعتمادا على مذكرات اللورد كرومر وونستون تشرشل وبرنارد لويس.
الدعوة لفتح الملفات دعوة شاملة لفتح ملفات المستعمرات السابقة أيضا التى مُسح تاريخها تارة بأقلام استعمارية وتارة بأقلام خدام السلطة وحاملى المباخر لتعقب رؤوس الفساد وصلاتهم بمراكز الحكومات الإمبريالية السابقة للتعرف على أسباب تعثر حكومات الاستقلال. وللتعرف أيضا على التجارب الناجحة للمستعمرات السابقة مثل ماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا والهند وباكستان وكوريا التى انطلقت انطلاقا هائلا بعد احتلال من أقسى الأنواع وقهر مارسته اليابان، بل حتى اليابان ذاتها التى تعرضت للاحتلال الأمريكى بعد القصف النووى وتعمد الولايات المتحدة تحطيم كل رموز الاعتزاز الوطنى اليابانى ونفس الشىء بالنسبة لألمانيا التى دمرت تماما فى حربين وتعرضت للتقسيم وللاحتلال المذل. لماذا انطلقت هذه الدول ونجحت فى تحقيق التقدم والتفوق الأمر الذى عجزت عن تحقيقه مستعمرات أخرى سابقة؟ فتح الملفات أصبحت ضرورة ملحة حتى لا ننزلق مرة أخرى للخضوع وفقدان الثقة بالنفس.
كتائب المؤرخين فى الخطوط الأمامية وعليهم تعبئة أنفسهم للقيام بهذا الواجب الكبير فى معركة الحقيقة وكتابة تاريخنا من منظورنا حتى لا تكون كما قالت «أنديرا غاندى» «مشكلتنا ليست فى أننا نرى العالم من خلال منظار الغرب ولكننا صرنا نرى أنفسنا من خلال منظار الغرب».