الجامعات الأهلية فى مصر.. حل أم مشكلة؟
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الأحد 13 سبتمبر 2020 - 7:15 م
بتوقيت القاهرة
للجامعات الأهلية فى مصر تاريخ يعود إلى بداية القرن العشرين عندما دعا لفيف من قادة السياسة والمجتمع إلى إنشاء جامعة مصرية حديثة، وكما هو معروف اجتذبت هذه الدعوة آلافا من المصريين تسابقوا لتمويل إنشائها لكى تحل محل المدارس العليا التى تعاقب إنشاؤها فى القرن التاسع عشر على أيدى محمد على وخلفائه من الأسرة العلوية. ورغم حماس المصريين لهذه الجامعة الوليدة، لم يكف هذا الحماس لتوفير كل الموارد التى احتاجتها ولم تتأخر الحكومة المصرية فى تقديم العون لها، ولكنها تحولت نتيجة لذلك من جامعة أهلية كما كانت منذ 1908 إلى جامعة عامة فى سنة 1925، ومع ذلك حافظت معظم الوقت على استقلالها رغم أن الجانب الأعظم من تمويلها كان يأتى من الحكومة. وتعدد بعد ذلك إنشاء هذه الجامعات العامة ووصل عددها إلى ثلاث فى نهاية العهد الملكى وارتفع إلى أربع فى نهاية الفترة الناصرية ثم تعاقب إنشاؤها فى عهد الرؤساء الذين أعقبوه حتى وصل عددها فى الوقت الحاضر إلى سبع وعشرين جامعة توفر خدماتها التعليمية لأكثر من مليونى طالب وطالبة يمثلون 92% من إجمالى طلاب الجامعات فى مصر. النسبة المتبقية وهى 8% تتلقى تعليمها فى الجامعات الخاصة وبلغ عددهم حسب إحصائيات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء فى سنة 2017 حوالى 180 ألف طالب يدرسون فى 28 جامعة خاصة وأهلية مقارنة بأكثر من مليونين ومائتى ألف فى الجامعات الحكومية.
ومن المعروف أنه رغم إنجازات الجامعات الحكومية والتى تخرج منها قادة مصر فى العهد الملكى وفريق التكنوقراط الذى احتل المراتب العليا فى جهاز الدولة المصرية منذ ذلك العهد، بل والكوادر الفنية فى كل المجالات من أطباء ومهندسين وعلماء واقتصاديين ورجال إدارة وقانونيين ومتخصصين فى جميع فروع العلوم الإنسانية، إلا أن هذه الجامعات تواجه فى الوقت الحاضر مشاكل زيادة الأعداد التى ربما جاءت على حساب نوعية مهاراتهم عند تخرجهم، وتواضع مكانة الجامعات المصرية بين الجامعات العالمية، وإن كانت آخذة فى التحسن، إلا أنها نادرة ما تأتى بين أفضل خمسمائة جامعة على مستوى العالم فى أى من تصنيفات الجامعات الدولية، ويعود ارتفاع المكانة غالبا لأبحاث أساتذة الجامعات فى مجالات العلوم التطبيقية، ونادرا ما ينتج ذلك عن أبحاث الجامعيين فى مجال الدراسات الاجتماعية والإنسانية، كما أنها أصبحت عاجزة عن توفير مقتضيات الحياة الكريمة للعاملين فيها، مما أسهم فى هجرتهم منها إلى جامعات أجنبية أو عربية، وعزوف كثير من خريجيها الذين أوفدوا للدراسة فى جامعات مرموقة خارج مصر للعودة إلى جامعاتهم الأم.
ما هو المخرج من هذا الوضع، علما بأن عدد خريجى الجامعات إلى إجمالى قوة العمل ما زال دون المستويات المناسبة دوليا وخصوصا فى عصر يتفق الكثيرون على تسميته بعصر المعرفة؟. يمكن اختصار مشكلة التعليم الجامعى فى مصر بأنه من الضرورى زيادة أعداد طلاب الجامعات مع ضمان رفع جودة التعليم الجامعى، وتعزيز قدرة المجتمع على الاستفادة من خريجيه بأن يجد لهم العمل المناسب. طبعا يمكن تصور اجتهادات عديدة خصوصا لو قبلنا ما قاله المرحوم الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم الأسبق (1993ــ2004) من أن التعليم فى مصر هو قضية أمن قومى. يمكن التفكير فى زيادة عدد الجامعات الحكومية التى تستوعب الغالبية الساحقة من الطلاب، وتوفير التمويل المناسب لها، وزيادة عدد من يذهبون للدراسة فى الخارج، وتوفير الظروف فى الجامعات التى تشجعهم على العودة إلى مصر ليس فقط بتحسين دخولهم ولكن أيضا بتوفير الإدارة الديمقراطية فى الجامعات واحترام الحقوق المدنية والسياسية لكل المواطنين بمن فيهم أساتذة الجامعات الذين تتواجد أعداد مهمة منهم قيد السجون دون أن يخضعوا للمحاكمة ودون أن يعرفوا مصيرهم. وتوجيه عجلة نمو الاقتصاد المصرى على النحو الصحيح بالتركيز على قفزات فى قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات الإنتاجية وهو ما يوفر فرص عمالة لائقة لخريجى الجامعات. طبعا هذه مجرد عناوين سريعة لبعض ما يمكن اقتراحه لحل أزمة التعليم الجامعى.
ولكن يبدو أن الحكومة المصرية تنحى هذه الحلول جانبا، وتطرح توجهات جديدة فى مواجهة هذه المشكلة، وهى بالتعويل على ما تسميه بالجامعات الأهلية والجامعات الخاصة بافتراض أن هذه الجامعات حتى وإن كان عدد طلابها حتى الآن محدودا لا يتجاوز 8% من إجمالى طلاب الجامعات، إلا أن العدد يمكن أن يزيد فى المستقبل، ونظرا لأنه يفترض أن هذه الجامعات والتى تتلقى من طلابها مصروفات عالية، لن تواجه مشكلة فى توفير الظروف المناسبة لاجتذاب أعضاء هيئات التدريس ذوى القدرات المتميزة.
وهذا التوجه الجديد الذى خرج من اجتماعات حكومية لم يحظ بأى مناقشة عامة لا على مستوى الرأى العام، ولا حتى داخل الجامعات، ونظرا لأن قضية التعليم هى بالفعل قضية أمن قومى، فهى تستحق نقاشا متعمقا، ولمن يشك فى أن قضية التعليم هى قضية أمن قومى يكفى تأمل كيف تتسابق دول العالم الكبرى والصغرى لكسب ود إسرائيل، طبعا ليس فقط لأنها الطفل المدلل للإدارات الأمريكية، وخصوصا إدارة دونالد ترامب، ولكن بسبب التفوق العلمى للإسرائيليين فى المجالات العلمية، ومن هذه الدول روسيا والصين والهند. أكتفى فى هذا المقال بطرح بعض التساؤلات التى يثيرها تبنى الحكومة لهذا التوجه بالتعويل على الجامعات الأهلية والخاصة لحل مشاكل التعليم الجامعى كيفا، وربما كما.
ما هو تعريف الجامعة الأهلية
المدهش أن تعريف الجامعة الأهلية الذى يأخذ به قانون الجامعات الأهلية والخاصة هو تعريف يتناقض ليس فقط مع ما يقوله أى معجم للغة العربية، ولكن حتى مع التقاليد التاريخية والثقافية فى مصر. الجامعة الأهلية هى التى ينشئها الأهالى وليس الحكومة، والمجتمع الأهلى هو مجتمع المواطنين، والجمعيات الأهلية هى التى يكونها المواطنون ويمولونها ويديرونها فى حدود القانون العام. جامعة القاهرة نشأت بداية كجامعة أهلية تسابق عليها المواطنون وأعضاء الأسرة العلوية. ولكن الخبر الذى طالعتنا به الصحف عن إنشاء عشر جامعات أهلية جديدة جاء بعد اجتماع حكومى على أعلى مستوى حضره مع الرئيس وزير التعليم العالى ورئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، ولم يكن فيه أى ممثل لهؤلاء الأهالى الذين يفترض بحكم التعريف أنهم هم الذين سينشئون هذه الجامعات، وحتى الآن لا نعرف من هم هؤلاء الأهالى. طبعا اجتهادات كاتب هذه السطور تذهب إلى أن بعض هذه الجامعات فى سيناء ستحظى بتمويل سعودى، ولكن وفقا لتصريح الأستاذ الدكتور وزير التعليم العالى فإن الحكومة هى التى ستوفر الدعم لهذه الجامعات والذى سيصل إلى قرابة ثلاثين مليار جنيه. بل وأضاف أن بعض هذه الجامعات الأهلية ستقيمها الجامعات الحكومية. والواقع أن كل ذلك يتفق مع ما ينص عليه قانون الجامعات الأهلية والخاصة، ولكن المشكلة أنه لا يتفق مع المنطق ولا مع صالح التعليم الجامعى والسلام الاجتماعى فى مصر.
الجامعات الأهلية وتخصيص الموارد العامة
لا أجد مبررا للاعتراض على إقامة جامعات أهلية بالمعنى الصحيح، ولا مع إقامة جامعات خاصة حتى لو استهدفت الربح، ولكن يجب أن تكون جامعات أهلية، يقيمها المواطنون، وينفقون عليها، ويوفرون لها احتياجاتها من أساتذة ومعامل ومكتبات أما أن تقيمها الحكومة مثلما فعلت مع جامعة النيل ووفرت لها المبانى والأرض والتمويل من الأموال العامة التى أتاحتها الميزانية لوزارة الاتصالات، ثم استغاث مجلس أمنائها بالحكومة بعد هذا كله، لتنقذها من أزمتها المالية خلال الشهور الأخيرة، فليس هذا هو المثل الصحيح لجامعة أهلية. كما لا أجد داعيا للاعتراض على إقامة جامعات خاصة بمبادرة من رجال أعمال القطاع الخاص كما هو معروف. ولهم أن يقتضوا ما يشاءون من مصروفات، ولكن ينبغى عليهم أيضا أن يبذلوا مجهودا لإعداد هيئات التدريس الخاصة بجامعاتهم. أما أن توجه الدولة مواردها لإقامة جامعات أهلية أو أن تقتطع الجامعات الحكومية من مواردها المحدودة لإقامة فروع لها تسميها جامعات أهلية توفر لأعضاء هيئات التدريس فيها، الذين هم من بين أساتذتها، امتيازات خاصة، فهذا لا يستقيم مع الأدوار المنوطة بأجهزة الدولة. التعليم العام هو خدمة يمولها المجتمع لتحقيق غايات عامة تفيد كل المواطنين بدون تمييز، ولا يجب أن يتضمن هذا الدور تقديم خدمة متميزة لمن يقدر على الدفع. كما لا يتفق مع هذا الدور استغلال القطاع الخاص للمال العام بالتعويل على هيئات التدريس فى الجامعات الحكومية التى أعدت أعضاءها وأنفقت على تعليمهم، لكى تقوم بالتدريس فى الجامعات الخاصة مقابل أجور هى أعلى بكل تأكيد مما يتقاضاه أعضاؤها فى الجامعات الحكومية. ولكنها أقل بكل تأكيد مما يتقاضاه زملاؤهم فى الخارج. طبعا هناك نماذج رائعة لجامعات أهلية وخاصة فى الخارج، وقد أتيح لى التدريس فى بعض أشهرها، ولكنها كلها جامعات أقامها «الأهالى» فى هذه الدول، ولم تقمها حكوماتهم. وهناك جامعتان فى مصر يتمتعان بسمعة طيبة ومستوى رفيع، هما كل من الجامعة الأمريكية والجامعة الألمانية، ولم يكن للحكومة المصرية دور فى إنشائهما.
والقضية الثانية الجديرة بالتأمل هو سبب هذا الشغف الحكومى بما تسميه بالجامعات الأهلية؟ ألم يكن من الأوفق توجيه هذه المليارات لدعم التعليم الجامعى العام الذى يفتقد الموارد الكافية لرفع مستواه الذى ما زال حتى الآن أعلى كثيرا من المستوى الذى توفره هذه الجامعات الخاصة، وأقول ذلك عن تجربة. أو ليست مؤسسات التعليم العام هى التى تخدم المجتمع عندما يواجه أزمة كما أوضحت أزمة الجائحة التى حولت فيها وزارة الصحة المستشفيات الجامعية إلى مستشفيات حجر بعد أن وجدت المستشفيات الخاصة فى ظروف الجائحة فرصة للكسب. أو ليس أساتذة الجامعات الحكومية هم الذين تستعين بهم الحكومة عندما تواجه تحديات صحية مثل انتشار فيروس سى، أو ليس كل المصريين الذين حققوا سمعة دولية وبرزوا خارج البلاد من نجيب محفوظ وبطرس غالى ومجدى يعقوب وأحمد زويل ومحمد البرادعى، وتوفيق الحكيم، ويوسف إدريس، وغيرهم كثيرون هم من خريجى هذه الجامعات، أو ليس معظم رؤساء الوزارات والوزراء من المدنيين فى حكومات مصر حتى فى حكومة الدكتور مصطفى مدبولى من خريجى هذه الجامعات. لا أنكر وجود وزيرات ووزراء ومصريين ومصريات متفوقين ومتفوقات من خريجى الجامعة الأمريكية أيضا، ولكن الجامعة الأمريكية ليست جامعة أهلية وفق تعريف القانون الخاص بهذه الجامعات.
يمكن أن يذهب البعض إلى أن سبب الاهتمام بالتعليم الأهلى والخاص هو صعوبة توفير التمويل اللازم للتعليم الجامعى العام. ولكن الإجابة عن هذا السؤال تقتضى التساؤل عن حكمة تخصيص الموارد الحكومية، وهل تتفق بالفعل مع احتياجات المجتمع؟ وهل بذلت الحكومة الجهد الكافى لتوفير هذا التمويل المناسب.
الجامعات الأهلية والخاصة والسلام الاجتماعى
والقضية الثالثة هى أثر هذا التدليل للجامعات الأهلية والخاصة على مستقبل السلام الاجتماعى فى مصر. الجامعات الحكومية هى التى تجتذب الأعداد الأكبر من خريجى التعليم الثانوى فى مصر، وهم الأكثر تفوقا، تعدهم الحكومة بتعليم من الدرجة الثانية فى الجامعات الحكومية التى تستقطب تسعة أعشارهم، وتعد بتعليم متميز للقلة التى تقدر على دفع مقابل هذا التعليم، وهى عموما الأقل تفوقا بحسب الدرجات التى يقبلها تنسيق الجامعات الأهلية والخاصة. الوظائف المتميزة فى مصر ستذهب لخريجى الجامعات الأهلية والخاصة الذين لا يجدون لهم فرصة للعمل فى الخارج، ولكنهم سيحصلون على هذه الوظائف ليس بقدراتهم، ولكن بحسب مكانة وصلات أسرهم. هل هذه هى الوصفة المناسبة لتعزيز السلام الاجتماعى فى مصر؟
أتمنى أن تشغل هذه القضايا هؤلاء الشغوفين بما يسمونه جامعات أهلية.