غرام وانتقام
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الثلاثاء 13 سبتمبر 2022 - 6:50 م
بتوقيت القاهرة
«ومن الحب ما قتل»، بهذا الشطر الشهير، اختتم الأصمعى، مساجلة شعرية، مع عاشق حائر بالبصرة. كان قد عمل بنصيحته للجم حبه المستحيل، عبر الإقدام على الانتحار مطلع القرن التاسع الميلادى. وبعدها بألف عام، استهل الشاعر والأديب الإنجليزى، أوسكار وايلد، قصيدته المعنونة «أنشودة سجن ردنغ»، بالشطر المثير: «نحن جميعا نقتل من نحب». وخلال الأشهر القليلة المنقضية، انفطرت أفئدة الملايين، أسفا على حوادث القتل المتتالية، التى أزهقت أرواح فتيات، من أمثال؛ نيرة أشرف، وسلمى بهجت، وأمانى عبدالكريم، علاوة على الأردنية «إيمان رشيد». بعدما قُتلن غيلة على أيدى شبان، رفضن حبهم أو أَبَين الزواج منهم.
رغم كونها دخيلة على مجتمعاتنا، أماطت جرائم العنف الرومانسى، القائم على النوع الاجتماعى، اللثام عن غيوم القصور الفكرى والاضطراب النفسى، التى تلبد أفقها. فثمة من أبدى تفهما لسلوك القتلة، معتبرا أن القتل باسم الحب، إنما يأتى فى عداد الانتقام للكرامة، ورد الاعتبار للكبرياء العاطفى. ولم تخل مواقع التواصل الاجتماعى من عبارات اللوم للضحايا، وإشارات التعاطف مع قاتليهم، بل وحشد الدعم لهم. ولقد أفصحت تلك الجرائم عن خلل فى تكوين بعض المراهقين، من قبيل؛ التضخم فى الذات، والمبالغة فى تقدير القدرات الفردية. بما يدفعهم لتغافل حق الطرف الآخر فى ممارسة حريته لاختيار شريك حياته، من خلال القبول أو الرفض العاطفى. ومن أسف؛ أن يفضى تأخر العقاب الرادع والسريع، إلى تكرار المأساة غير مرة، بمناطق متفرقة، وفى مدى زمنى قصير نسبيا. الأمر الذى يكرس لاستضعاف المرأة، إلى حد يجعلها تدفع حياتها ثمنا لحريتها، وتحديها للثقافة الذكورية، ورفضها الإذعان للسادية، أو الرضوخ للقهر.
تسلط «جرائم الحب»، الضوء على ما يُعرف اصطلاحا فى علم النفس الاجتماعى، بإشكالية «فرط الحساسية للرفض». تلك المتمثلة فى الميل إلى الاستجابة بشكل حاد وعنيف لرسائل الرفض من قبل الآخرين. فغالبا ما يتملك الأشخاص الذين يعانون حساسية عالية تجاه الرفض، هلع بالغ تجاهه، ينعكس سلبا على حياتهم وعلاقاتهم بمحيطهم. وبجريرة مخاوفهم وتوقعاتهم، يميل أولئك الموتورون، إلى إساءة تفسير ما يصدر عن الآخرين من قول أو فعل، والمبالغة فى تقدير وقعه. ومن ثم، يستسلمون لنداء الغضب، فيقدمون على إيذاء رافضيهم.
يرجح أهل الاختصاص أن أجواء التنشئة العائلية المبكرة غير الصحية، قد تتمخض عن متلازمة فرط الحساسية للرفض الاجتماعى. إذ تبدأ هذه المعاناة لدى الفرد عند عزوف والديه عن التجاوب مع احتياجاته، خاصة تلك المتعلقة بالقبول والمودة. وبناء عليه، ينشأ معتقدا أن الرفض المجتمعى سيجهض مساعيه الرامية لبناء علاقات ناجحة. ولقد أوضحت دراسة أُجريت على طائفة من الشباب الجامعى عام 2015، أن ما يختزنونه فى ذاكرتهم، حول مدى قبول والديهم، أو رفضهما لهم، خلال مرحلة الطفولة، قد خلف أثرا عميقا، على مستوياتهم الحالية من حساسية الرفض. كما أن العنف الناجم عن تلك الحساسية، قد لا ينتظر مرحلة البلوغ، بحيث يبدأ الأمر مُبكرا، ليتصرف الأطفال شديدو الحساسية للرفض، بشكل عدوانى إزاء الآخرين. إذ يحسبون أن العالم مكان غير مضياف، وبيئة مفعمة بالإقصاء والعداء. وقد تجلى هذا الأمر فى الفاجعة التى زلزلت إحدى قرى مركز بلقاس بالدقهلية، مطلع الشهر الجارى. حيث بررت الطفلة «دينا»، ذات الثلاثة عشر عاما، نحرها شقيقتها الصغرى «جنى»، ذات الأعوام الخمسة، بضجرها من غُبن واضطهاد والديها لها، وتفضيلهما أختها الضحية عليها. لكن الملفت فى تلك الواقعة النكراء، أنها صعقت الجميع برد الفعل الانتقامى بالغ العنف. فكم من أسرة تشهد حالات تمييز بين الأبناء. وتلك نقيصة ذميمة، تنم عن فرط جهل، وفقر خلق، ووهن تدين. غير أن الأمر لم يكن ليتطور أبدا، بحيث يبلغ غضب وغيرة الأبناء والبنات المضطهدين، مستوى قتل الأخوة أو الأخوات.
يعتقد علماء كُثر فى القابلية البيولوجية لدى بعض الأشخاص، للإصابة بحساسية الرفض. عبر وجود استعداد وراثى، أو سمات شخصية معينة، تزيد من احتمالية أن يغدو الشخص بالغ الحساسية تجاه رفض الآخرين له. حتى أن بعض الباحثين ربط بين حساسية الرفض واضطرابات نفسية أخرى، كتدنى احترام الذات، والتشنج السلوكى، والقلق الاجتماعى، واهتزاز الثقة بالنفس.
ليست الثقافة الذكورية بمنأى عن هذا المضمار. حيث يمكن إرجاع السبب وراء حساسية الرفض المبالغ فيها لدى بعض المراهقين، إلى الصورة الذهنية النمطية للرجال فى الوعى الجمعى الإنسانى. تلك القائمة على كونهم أقوياء، وناجحين، ومستقلين، ومرغوبين، ولا يحتاجون إلى أحد، ولديهم ثقة فائقة بأنفسهم. ولعل هذه الصورة تفسر الفوارق بين الجنسين لجهة قبول الرفض الاجتماعى. إذ تتفاوت استجابة الرجال والنساء للرفض، حسب التكوين النفسى والبيولوجى، ووفقا لمرئيات ثقافية. فبدرجة أكثر حدة من النساء، يعتبر الذكورالرفض، انتقاصا من رجولتهم، أو إهانة لمكانتهم المتصورة فى التسلسل الاجتماعى الهرمى.
فى عام 1998، اكتشف فريق بحثى غربى، أن حساسية المراهقين المتنامية حيال الرفض، تتأتى أساسا من استجابات عاطفية ثلاث: توقع الرفض بشكل دفاعى، الميل إلى تصور سلوكيات الآخرين على أنها رفض. ثم المعاناة من ردود فعل سلبية شديدة على الرفض الرومانسى. وتوصل الفريق إلى أن الألم الناتج عن تجربة الرفض، يتشابه، بدرجة كبيرة، مع الألم الجسدى. وفى عام 2003، انتهت دراسة إلى أن الأشخاص الذين يتعرضون للرفض أو النبذ الاجتماعى، يتحولون أحيانا إلى أشخاص عدوانيين وتواقين لممارسة العنف. وقد أُجريت دراسات حالة لبعض حوادث إطلاق النار فى المدارس الأمريكية بين عامَى 1995 و2001. بغية الوقوف على الدور المحتمل للرفض الاجتماعى فى أحداث العنف المدرسى. وخَلٌصت الدراسة إلى أن الحساسية المفرطة إزاء الرفض العاطفى الحاد أو المزمن، والذى يحدث على شكل، نبذ و/أو تنمر و/أو رفض رومانسى، يشكل دافعا ملحا لارتكاب معظم هذه الحوادث.
لا يمكن تبرئة الإعلام والدراما من مآسى جرائم قتل الفتيات بسبب الحب، فى عالمنا العربى. ففى أحيان كثيرة، قد يعرضان منتجا يحض على تكريس مناخ العنف، والكراهية، والحقد، والانتقام. من خلال الأعمال الهابطة والمفلسة، التى تتبارى فى تسويق السفه والترويج للانحلال. وقد أكد علماء النفس والاجتماع، أن معايشى أعمال العنف فى بيئاتهم، أو متابعيها عبر الدراما والإعلام غير المسئولين، يظنون دوما أن العنف وسيلة مقبولة لتحقيق الانتصار والغلبة. ومن ثم، تصير الحياة فى نظرهم، ساحة نزال بين فئتين؛ منتصرين ومهزومين. ولما كان المصابون بفرط الحساسية تجاه الرفض، يعتبرون الهزيمة هزيمة لتقديرهم المبالغ فيه لذواتهم، فقد يلجأون إلى العنف، بوصفه سبيلا للظفر فى معركة لا وجود لها إلا فى مخيلاتهم.
خلافا لذلك المشهد الإعلامى والدرامى الهدام، كان عشاق الفن السابع، ومرتادو الشاشة الفضية، فى عام 1944، على موعد مع الملحمة السينمائية التى حملت عنوان «غرام وانتقام». ذلك الفيلم الخالد الذى أخرجه، وكتبه، وتصدر بطولته، الفنان الراحل يوسف وهبى، بمشاركة المطربة اسمهان، وأنور وجدى، ومحمود المليجى، وبشارة واكيم. وهنالك، أوضح الفيلم كيف يسمو الحب بالروح، ليحض الإنسان على التعقل والتسامح، واحترام إرادة الآخرين، وتقدير مشاعرهم. وبعدها بسنوات أربع، جاءت رائعة «غزل البنات»، التى كتبها، وأنتجها، وأخرجها، المبدع أنور وجدى. كما تشارك بطولتها مع العمالقة؛ نجيب الريحانى، ويوسف وهبى، وليلى مراد، سنة 1948. فمن خلالها، أعطى، يوسف وهبى، الذى جسَد دور الفنان العظيم، لنجيب الريحانى، ذلك المدرس البائس، والعاشق المكلوم، وصفة إنسانية مثالية فى التعاطى مع محبوبته، التى لم تطاوعها نفسها مبادلته الغرام. حيث ينصحه أن يرضى بقدره، فيطوى حبها فى سويداء قلبه، ويضحى بسعادته، لأجل غبطتها. وأن يتمنى لها من صميم الوجدان، دوام البقاء والهناء، مع من يناسبها، ويهوى إليه فؤادها.