هل لسياسات إسرائيل تكلفة عليها؟

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 13 سبتمبر 2025 - 7:25 م بتوقيت القاهرة

‎مدّت إسرائيل غاراتها إلى إقليم قطر يوم الثلاثاء الماضى 9 سبتمبر، مستهدفةً قتل قادة حركة «حماس» المجتمعين للبحث فى قبول العرض الأمريكى لوقف إطلاق النار فى غزة، وإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين وكذلك عدد من الفلسطينيين الموجودين فى السجون الإسرائيلية، وعلى ما قيل انسحاب إسرائيل من القطاع. لم تفلح الغارة فى قتل القادة الذين استهدفتهم، ولكنها قتلت نجل أحدهم ومساعدًا له، فضلًا عن مواطن قطرى. سقوط الضحايا مؤسف تمامًا من الناحية الإنسانية، ولكن للغارة أبعادها السياسية بالغة الأهمية. هذه الأبعاد ليست جديدة على غالبية المراقبين فى كل مكان، وعلى الأكثرية الساحقة من مواطنى البلدان العربية، ولكن الغارة أبرزتها بشكل لا يمكن تجاهله.


‎إقليم قطر تعرض لغارة إسرائيل بعد أن تعرضت لمثلها أقاليم فلسطين ولبنان وسوريا واليمن مؤخرًا، ناهيك عن إيران فى الشرق الأوسط الأوسع. نغضّ الطرف فى هذا التحليل عن الغارات على السودان فى العقد الماضي، وعلى العراق وتونس فى الثمانينيات من القرن المنصرم. الحديث هنا عن الغارات وهو لا يتطرق إلى الحروب التى شنتها إسرائيل على مصر وسوريا والأردن ولبنان. اعتبارًا من الخمسينيات من القرن الماضى. لم يتحدث أحد عن الغارة على اليمن لأن ضحاياها من رئيس الوزراء إلى الوزراء من الحوثيين الذين لا تعترف بهم الدول العربية وجامعتها. غير أن الرسالة الأهم من الغارة على اليمن ليست أن إسرائيل تستطيع أن تنال ممن يجرؤون على التعرض لمصالحها، وهى فى هذه الحالة مرور تجارتها فى البحر الأحمر، بل إنها تستطيع أن تصل إلى أى مكان فى المنطقة العربية لتفعل فيه ما يتراءى لها.


‎ غارات إسرائيل تعدّت أقاليم ما كان يُعرف بدول الطوق. الغارة على قطر إفاضة وإيضاح من إسرائيل لرسالتها: ستصل إسرائيل إلى إقليم أى دولة عربية وتنفذ فيه عملياتها، من قتل أو دمار أو استخبارات، ولن يردعها عن ذلك أن تكون الدولة وسيطًا نشطًا يبحث عن تسويات لنزاعاتها مع «حماس» أو غيرها. بهذا المنطق، يوم غد أو بعد غد، يمكن أن تمتد غارات إسرائيل لتكون سبيلها لفرض مصالحها ورؤاها على من يدافع عن مصالح مغايرة لها، أو يعبر عن مواقف لا تروق لها.


• • •
‎يلفت النظر أن الغارة الإسرائيلية على قطر وقعت بعد أيام من اعتماد مجلس جامعة الدول العربية قرارًا جيدًا، مركزًا، وحسن الصياغة، بمبادرة مصرية-سعودية، بشأن رؤية عربية مشتركة تحدد قواعد أساسية للأمن والتعاون فى منطقة الشرق الأوسط. جوهر القرار هو أن الدول العربية، وبعد تسوية القضية الفلسطينية بإنشاء الدولة المستقلة والقدس عاصمتها، و«ضمان حقوق اللاجئين»، تتعهد بإقامة نظام للأمن والتعاون فى منطقة الشرق الأوسط تستفيد منه كل دولها، نظام فيما يخص إسرائيل يكفل لها الأمن من جانب، والتعاون معها من جانب آخر. غارة إسرائيل على قطر هى ردها على الرؤية العربية، وهو رد تخطى فى تحديه رفضها للمبادرة العربية لسنة 2002. غارة إسرائيل على قطر، مع غاراتها على الدول العربية الأخرى المذكورة، لا تُفسر إلا بأن إسرائيل لا يعنيها أى نظام مشترك للأمن والتعاون، بل إنها عازمة على أن تفرض بنفسها ما تتصوره أمنًا لها، وعلى أن تحدد وحدها نمط تعاملها مع دول الإقليم. إسرائيل تريد لنفسها أمنًا لا يعبأ بأمن سواها، وهى ترغب فى تعاملات مختلة التوازن فى الإقليم. التعاون، بمعنى التبادل المتوازن للمصالح، لا يعنيها.


‎التساؤل يثور عما سيكون عليه الرد العربى على الغارة الإسرائيلية على قطر. هذه الغارة لا يمكن اعتبارها شأنًا قطريًا فقط، لأنها تندرج فى إطار سلسلة أوسع من الغارات اتسعت حتى وصلت الخليج بعد أن طالت جنوب الجزيرة العربية. السياسة هى مجموعة من الإجراءات الرامية إلى تحقيق هدف محدد مسبقًا، والإجراءات إما حوافز تُقدَّم، أو تكلفة تُفرض. الامتناع عن اتخاذ أى إجراء، سواء كان حافزًا أو تكلفةً، هو بمثابة سياسة أيضًا. الامتناع عن اتخاذ أى إجراء عربى هذه المرة لا ينبغى أن يكون واردًا لأنه سيكون بمثابة تسليم بأن لإسرائيل أن تفعل ما يبدو لها. الامتناع عن ردود الفعل الملموسة والتعويل على التعقل الإسرائيلى أدى إلى تغول الاستيطان فى الضفة الغربية لنهر الأردن، وإلى خنق غزة وسكانها، ثم إلى الغارات المذكورة. الحوافز لم تُغرِ إسرائيل بأن تحترم أقاليم الدول العربية وأمنها. ها هى قد غضت الطرف عن الرؤية العربية للأمن والتعاون ولم تُعر اهتمامًا بحسن النية العربية الجماعية. ألم يحن الوقت لفرض تكلفة على سلوك إسرائيل فى المنطقة؟


• • •
‎ثمة من يقول إن أى تكلفة تُفرض على سياسات إسرائيل هى الحرب معها. الحرب مستهجنة لا أحد عاقل يريدها. أخطر الحالات هى عندما لا يكون أمام صانع السياسات ومتخذ القرار إلا إجراء واحد يلجأ إليه أو لا يلجأ. الإجراءات التى تُفرض بها تكلفة على إسرائيل متعددة فى مجالات عدة: الدبلوماسية، والتجارية، والزراعية، والأمنية، ومجالا النقل الجوى والبحرى، وربما مجالات أخرى ليست معروفةً للمراقب غير المطلع على خفايا العلاقات العربية-الإسرائيلية. فرض تكلفة على إسرائيل مقابل سياساتها المتزايدة تعنتًا وعنجهية وتعاليًا يمكن أن يؤدى إلى تعزيز فرص السلام المتوازن، ذلك أنها قد تساعد على إبراز ما تكلفه هذه السياسات لإسرائيل، وبذلك قد تُعين على إعادة الحياة لبقايا معسكر السلام فى إسرائيل الداعى إلى تسوية القضية الفلسطينية وإنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة باعتبارها الضمان الفعلى لأمن إسرائيل. من هذا المنظور، عدم فرض تكلفة على التوسع المستمر فى الاستيطان فى الضفة الغربية منذ أربعين عامًا، وخنق قطاع غزة بشكل مجانى بلا تكلفة على إسرائيل، هو ما أدى إلى تنامى قوة أقصى اليمين العنصرى والاستيطانى الإسرائيلى. ثم إن فرض تكلفة على إسرائيل قد يجعل مسانديها فى الولايات المتحدة خصوصًا، وفى غيرها كذلك، يعيدون النظر ولو فى بعض مساندتهم لها، فالتكلفة على إسرائيل هى تكلفة عليهم فى نهاية الأمر.


‎سلوك إسرائيل فى السنوات الأخيرة، ومنذ أكتوبر سنة 2023 بالذات، كانت تكلفته عليها سمعتها فى النظام الدولى الحكومى، وخاصةً غير الحكومى، أى فى المجتمع المدنى العالمى. من الجامعات إلى حقول الفنون والرياضة، إلى الناس العاديين ومنظماتهم المدنية، يتزايد فى كل يوم وفى كل مكان التنديد بإسرائيل وبسياساتها، والتعاطف مع الشعب الفلسطينى ومعاناته، والمساندة لتطلعاته. هذه تكلفة باهظة على إسرائيل التى حرصت منذ نشأتها على تصوير نفسها على أنها الضحية والمثال على التقدم والإنسانية.
‎التكلفة على إسرائيل من سمعتها ومن موقف المجتمع الدولى الحكومى وغير الحكومى منها مهمة تمامًا، ولكنها غير كافية. فرض الدول العربية تكلفة ملموسة لسياسات إسرائيل لا غنى عنه لدفعها إلى إعادة النظر فى سلوكها، ولمنح السلام المستدام فى المنطقة فرصة. الرجاء هو ألا تكون الأخيرة.

‎أستاذ الأبحاث بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved