تفخر أسرتنا فخرا عظيما لحصول أحد أبنائها على أرفع وسام عسكرى مصرى وهو وسام نجمة سناء من الطبقة الثانية ممهورا بتوقيع وقلم الرئيس أنور السادات وليس بمجرد ختم له، وهو ابن خالتى الشهيد/ مراد سيد عبدالحافظ نحسبه كذلك ولا نزكى على الله أحدا، وفى هذه الأيام تمر الذكرى الرابعة والأربعين لذكرى استشهاده.
ولم يحصل على وسام نجمة سيناء سوى عدد قليل فى مصر وهو الوحيد من بلدتنا الذى حصل على نجمة سيناء، وقد جاء فى نص وثيقة حصوله على هذا الوسام العسكرى الرفيع ما نصه:
«من أنور السادات رئيس جمهورية مصر العربية ,إلى أسرة الشهيد رقيب أول مراد سيد عبدالحافظ من الإبرار الجوى سابقا، تقديرا لما أظهره المرحوم فقيدكم من أعمال ممتازة تدل على التضحية والشجاعة فى ميدان القتال أثناء حرب رمضان سنة 1393قد منحنا اسمه وسام نجمة سيناء من الطبقة الثانية وأمرنا بإصدار هذه البراءة إيذانا بذلك تحريرا بقصر الجمهورية بالقاهرة فى اليوم السابع والعشرين من شهر محرم ,سنة ألف وثلاثمائة وأربع وتسعين من هجرة خاتم المرسلين 19 فبراير سنة 1974م».
وقد أصدرت هيئة البحوث العسكرية بوزارة الدفاع كتابا خاصا عن الشهيد مراد فى سلسلة التاريخ العسكرى التى كانت تصدرها تباعا وتوزع على المكتبات العامة والجامعية.. وهذا الكتاب اسمه « فارس الحصان الأبيض « قصة الشهيد مراد عبدالحافظ من قوات المظلات عام 1979 وكان يحمل رقم الكود 3/68 وله رقم مسلسل (165).. وكان الكتاب ينقسم إلى قسمين:
الأول بعنوان «خلفية تاريخية عن الشهيد البطل».. ويحكى دوره فى تدمير الثغرة والذى استحق من أجله أن ينال أرفع وسام عسكرى مصرى.
أما القسم الثانى: فهو عبارة عن مسرحية تحكى قصة بطولة واستشهاد مراد وقد اسماها مؤلفها باسم «فارس الحصان الأبيض».. وهى مسرحية حقيقية تصور بطولته وزملاءه فى تدمير القوات الإسرائيلية بالثغرة، وهذا نص الكتاب الذى أصدرته وزارة الدفاع المصرية:
ومن شخصياتها المصرية الشهيد مراد ,نبيل، عبدالشهيد ومحفوظ ونور.. ومن الجانب الإسرائيلى ديفيد، شاوؤل، وناحوم، وزفاى ,والمكان هو مصطبة الدبابات رقم 4 بين الدفرسوار والاسماعيلية ,والزمان 10 أكتوبر 73.
عندما تمكنت القوات الإسرائيلية من عبور القناة إلى الغرب من نقطة الدفرسوار حاولت تطويق الجيشين الثانى والثالث الميدانى.
قامت القوات المسلحة المصرية بتكليف قوات الصاعقة والمظلات بمهمة الاستيلاء على مصاطب الدبابات فى الضفة الغربية قبل استيلاء الإسرائيليين عليها فتم تكليف قوات الصاعقة والمظلات «الإبرار الجوى» باحتلال المصاطب رقم 5,4,3.. وتأمين باقى المصاطب.. وكانت هذه المصاطب الثلاث قد استولت عليها القوات الإسرائيلية
وكانت المصاطب محاطة بالألغام التى رصتها القوات المصرية وتمكنت القوات الإسرائيلية من بعثرة بعض الألغم حولها.. وتحركت السرية حتى وصلت إلى منطقة عملها ,وكان الرقيب أول مراد مدربا على أعمال المهندسين العسكريين، فقام بفتح الثغرات فيها بالإمكانيات المحلية وقد أمن بذلك عبور أفراد السرية عبر حقول الألغام.
وكان يمر على أفراد وحدته يحثهم على القتال قائلا:
* «هذه هى اللحظة التى نثبت فيها للعالم كفاءة الجندى المصرى وضراوته وشراسته فى القتال« هيا يا رجال المظلات:
وقد احتل مع بعض الأفراد موقعا فى مصطبة الدبابات رقم 4.. واشتبك مع العناصر الإسرائيلية التى تحتل المصاطب الأخرى حتى قاموا بتطهيرها وتأتمنيها.. وقام باقى السرية باحتلال المصاطب الأخرى 5,3 وبهذا تمكنت السرية من تحقيق مهمتها بنجاح.
* وعلى الضفة الشرقية رأى «الشهيد» عددا من صناديق الصواريخ الفردية المضادة للطائرات طراز سام07 وهى الصواريخ التى أسقطت عددا كبيرا من الطائرات الإسرائيلية التى تطير على ارتفاعات منخفضة.. وكانت ذات كفاءة عالية أثرت على مجريات الأحداث.. وقد حاولت مجموعات صغيرة من القوات الإسرائيلية فى الضفة الشرقية المواجهة لمصاطب الدبابات الاستيلاء على هذه الصناديق.. ولكنه تمكن من إحباط نواياها واستعان بأحد القوارب الراسية على الضفة الغربية، وصمم على ضرورة إحضار هذه الصناديق مهما كان تأثير القصف الجوى والمدفعى شديدا عليه.
وقام بإحضار هذه الصناديق بمعونة بعض الأفراد، وتحت ستر نيران باقى أفراد السرية.
وكان«الشهيد» سباقا فى إخلاء الجرحى والمصابين وإمداد سريته بالذخيرة على المصاطب المختلفة رغم بعد المسافة بين المصاطب بعضها عن بعض، بلغت فى بعض الأحيان كيلو مترا.
وحاولت القوات الإسرائيلية تطويق هذه السرية والقضاء عليها، وصدرت الأوامر إلى السرية لتعديل أوضاعها والارتداد إلى أحد المواقع المناسبة فى منطقة طوسون.
* وقام الرقيب الأول الشهيد البطل بالاتصال بمواقع الفصائل والجماعات ليبلغ الأوامر والسيطرة على عناصر السرية حيث كان الاتصال اللاسلكى مقطوعا بين مواقع الفصائل والجماعات وقيادة السرية
وطلب أن يقود جماعة ستر الارتداد للسرية.. وبعد تمام الارتداد للكتيبة إلى منطقة طوسون نصب كمينا لقوة فصيلة دبابات إسرائيلية مدعمة (4 دبابات ومعها 2 عربة نصف مجنزرة).. وقام بالسيطرة على قوة الكمين ولم يكن معهم سوى قاذف RBG 7 ــ واحد مضاد للدبابات، ولكنه لمح قاذف RBG 7ــ آخر ملقى على الأرض بجوار جثمان أحد الشهداء، فتناوله وانتخب موقعا مناسبا لضرب الدبابات الإسرائيلية المقتربة، وحبس النيران ليحقق المفاجأة للدبابات الإسرائيلية، وأطلق مقذوفا أصاب الدبابة القائدة للدورية، ودمر الدبابة القائدة وقتل قائد دورية القتال الإسرائيلية، وهربت باقى الدبابات وأخذت تطلق نيرانها فى كل اتجاه أشتاتا مؤثرة على الموقع، ولكن الرقيب أول مراد لم يصب بأى من هذه الطلقات.
وعند عودته إلى باقى أفراد السرية أصابته طلقة غادرة من إحدى الدبابات، فلقى الشهادة مبتسما فرحا بما حققه لوحدته، فقد أمن طريق ارتدادها إلى منطقة طوسون وأحبط محاولات القوات الإسرائيلية لحصارها ونصب الكمائن فى طريق ارتدادها، وكان ذلك الساعة 17 من يوم 20 أكتوبر 1973 حيث دفن فى هذه البقعة الطاهرة.
واتخذت الوحدة مواقعها الجديدة فى منطقة طوسون تاركة على أرضها الطاهرة دماء البطل الشهيد الذى ضرب أروع الأمثلة فى البطولة والفداء، وقد نقل رفات البطل بعد ذلك إلى مقابر الشهداء فى الاسماعيلية فى موكب مهيب..
كان هذا نص ما ورد فى الجزء الأول من كتاب «فارس الحصان الأبيض» الذى أصدرته وزارة الدفاع.
* وقد أثرنا أن ننقل الكلام بنصه من هذا الكتاب حتى لا يتصور بعض القراء أننا نبالغ فى بطولته وشجاعته.
وفى ختام هذا الكتاب هناك فصل بعنوان «أضواء على ما تميز به البطل».
وجاء فى هذا الفصل «وقد امتاز بين زملائه بالخلق الكريم، فكان نادرا ما يغضب أو يغضب منه أحد، فإن فعل بادر إلى استدارك حقيقة الموقف وشرح ظروفه والاعتذار عما بدر منه إن كان مخطئا والصفح عن المسىء، وكان رحمه الله محبا للعلم العسكرى.. يحصل على الفرق العسكرية كلما سنحت له الفرص.. دءوبا على التدريب الشاق المتواصل.. حريصا على صلاحية أسلحته وذخيرته وقد وصفه بعض أقرانه باسم «الشهم الأصيل» نظرا لبروز هذه الصفات فيه وكان شجاعا، قوى الأعصاب، حكيم التصرف فى المواقف الحرجة، فقد كانت روحه هجومية بحكم تربيته وبيئته وتدريبه، وكان يوفر فى المعركة الذخيرة فى كل مكان ويتعرض من أجل ذلك للكثير من المخاطر، وليس أدل على هذا من عبوره القناة وحصوله على صناديق ذخيرة القاذف RBG 7 قبل أن تستولى عليها الجماعات الإسرائيلية.
ولا تفخر أسرتنا بالوسام فحسب ولكنها تفخر أكثر ببطولته وشجاعته وتدينه ورجولته مع رقته ورحمته وبره بأهله وأحبته، كما تفخر وتسعد كلما مر واحد منها على المدرسة العريقة فى ديروط والتى أطلق عليها اسمه، وكنا نزداد فخرا كلما قابلنا زوجته الصابرة الصامدة التى ظلت أرملة منذ يوم استشهاده وحتى وفاتها، فقد أبت أن تتزوج غيره، لتمنح ابنتها كل حنانها وعطفها، وخوفا من أن يسىء الزوج الجديد معاملتها أو يجرح مشاعرها ولتظل دوما أرملة الشهيد التى لم تجد له كفؤا بين الرجال.
لم يترك الشهيد مراد سوى ابنة وحيدة أسماها /عبير وبعد سنوات من استشهاده تزوجت هذه الابنة من ابن عمتها ليكون للشهيد مراد وزوجته أحفاد يذكرون بطولات جدهم وشجاعته والأوسمة الكثيرة التى حصل عليها.
والشهيد مراد سيد من مواليد 2 إبريل سنة 1944، كانت صورته المعلقة على الحائط فى منزل خالتى بزى الصاعقة تبهر جميع الشباب والأطفال من أسرتنا، فقد كنا وما زلنا نعتقد أن قوات الصاعقة أشجع عناصر الجيش ولديهم القدرة على صنع أصعب البطولات العسكرية، وكانت الوطنية تسرى فى عروقنا منذ نعومة أظفارنا فى عهد عبدالناصر، والذى نجح إلى حد كبير فى زرع الوطنية والرجولة فى نفوس المصريين جميعا وقتها، وازداد هذا الشعور بعد نكسة يونية سنة 1967 حيث لم يبق بيت فى مصر ليس فيه جندى أو ضابط فى الجيش أو قريب أو صديق أو جار أصيب أو استشهد فى حرب يونية التى كانت كارثة على مصر والعرب بكل المقاييس.
كان الشهيد مراد يعامل الجميع بود ظاهر ورقة شديدة لم نعهدها فى أهل ديروط المعروفين بشىء من الصرامة الجفوة والشدة، مما زاد فى محبتنا له.
أما على المستوى الإنسانى للشهيد مراد فكان لا يترك قريبا ولا بعيدا ولا جارا ولا صديقا ولا كبيرا ولا صغيرا من أقربائه أو معارفه إلا ووصلهم بمعروفه ونبله، تراه فى رقته وعطفه وأدبه وتواضعه فلا تتخيل مدى شجاعته وقوته فى الحرب، وكان لديه نخل فى أرض يمتلكها، فكان يعطى جميع الفقراء حوله يوم الحصاد فضلا عن الأصدقاء والجيران والأقارب، وكان غاية فى الكرم.
ومن الطريف أنه كانت لديه كلبة ترتبط بعلاقة لا شعورية غريبة مع هذا البطل، فكانت تشعر بقدومه إلى محطة القطار وبمجرد نزوله منه فى إجازاته، وأصابتها حالة عجيبة من الاكتئاب بعد استشهاده وخرجت من البيت هائمة على وجهها ولم تعد للبيت حتى ماتت.
* وكان أشقاؤه وأصدقاؤه يحكون لنا عن بطولاته فى حرب اليمن وحرب 5 يونيه سنة1967، ورغم ذلك لم يصبه مكروه فيها، ليكتب الله له الشهادة فى أول معركة ينتصر فيها جيش عربى على الجيش الإسرائيلى.
والشهيد مراد التحق بالقوات المسلحة متطوعا فى وحدات المظلات سنة 1962، ويرجع الفضل فى نشأتها وتأسيسها إلى الفريق سعد الشاذلى الذى ظل يقوده حتى وصل بعد ذلك إلى قائد القوات الخاصة المصرية، ثم أصبح رئيسا لأركان حرب الجيش، وهو المهندس الحقيقى لعملية العبور، وقد هضم البعض حقه وفضله بعد ذلك. وقد تتلمذ الشهيد مراد على يد مجموعة كبيرة من أشهر قادة القوات الخاصة، ومن أبرز أساتذته الشهيد إبراهيم الرفاعى أسد الصاعقة الشهير، والذى أذل الإسرائيليين ودوخهم، وكان الرفاعى يجمع ضباطه وجنوده قبل كل عملية فدائية ويقول لهم:
«نحن نقاتل فى سبيل الله والوطن ونريد الشهادة، تذكروا ذلك جيدا يا أولادى».. وكان ذلك فى أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات قبل أن توجد الحركات الإسلامية على الساحة المصرية..
وكان الشهيد مراد مثل كل ضباط وجنود القوات الخاصة يحب أستاذه الرفاعى ويحاول تقليده فى الشجاعة والرجولة وقوة التحمل.. ويعتبرونه الأب الروحى والقدوة لهم.
وقد شارك الشهيد مراد فى حرب يونية سنة 1967ضمن الكتيبة 81 مظلات وكانت تقاتل فى منطقة شرم الشيخ.
ورغم البلاء الحسن الذى أبلاه الكثير من ضباط وجنود القوات المسلحة فى حرب يونية إلا أن الأخطاء الفادحة للقيادة السياسية والعسكرية غطت على هذه البطولات وظلمت العسكرية المصرية ومرغت سمعتها العظيمة فى التراب، تلك السمعة التى اكتسبتها من حطين وعين جالوت وحروب بيبرس وقلاوون للتتار والصليبيين، ومحمد على فى اليونان وتركيا وغيرها.
وكان لقوات المظلات والإبرار الجوى الدور الكبير فى التمهيد للعبور ثم كان دورها الأعظم فى تدمير ثغرة الدفرسوار، وكان للشهيد مراد دور عظيم فى تدمير القوات الإسرائيلية بالثغرة.
رحم الله الشهيد مراد رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته.