عُقدَة التخلّي
نيفين مسعد
آخر تحديث:
الخميس 13 أكتوبر 2022 - 6:40 م
بتوقيت القاهرة
كانت تظن أنها تخلّصَت من هذا الكابوس اللعين الذي كثيرًا ما هجم عليها لا يميّز في هجومه بين الليل والنهار، لكنها اكتشَفَت أنها كانت واهمة. في الحقيقة هي لم تتعرَض منذ فترة طويلة لأحد الاختبارات الصعبة التي كانت تعاني على أثرها من هذا الكابوس، لذلك ظنّت أنها شُفيت منه وما كانت قد شُفيت. منذ تركَت الملجأ الذي عاشت فيه أصعب سنواتها وانتقلَت إلى بيت هذه الأسرة الطيبة، وهي تموت رعبًا من يوم يتخلّى فيه عنها أصحاب البيت ويعيدونها من حيث أتت. لا يوجد أي مؤشر يبرّر رعبها، بالعكس فإن الزوجين لا يوفرّان جهدًا لإشعارها بأنها من أهل البيت وأن وجودها معهم أساسي ولا يمكنهما الاستغناء عنها. إنهما لا يخطئان أبدًا في الجلوس مكانها على مائدة الطعام وكأنهما يريدانها أن تفهم أن أحدًا لا يمكنه أن يحّل محلها، يحترمان ذوقها في نوع الطعام وترتيب الأثاث ومسلسلات التلفزيون وفي كل شيء لتتأكد أنها مثلهما صاحبة رأي وأن رأيها محترم، يعتمدان عليها في العناية بالزرع وتلميع البراويز الفضية ويرسلانها بأطباق العاشوراء وحلاوة المولد للجارة العزيزة في الطابق الخامس، و… يشركانها في العناية بثروتهما الثمينة من القطط الشيرازي، وهذا الدور بالذات تحب جدًا أن تمارسه. تشعر تجاه هذه القطط بمسؤولية كانت تتمنى لو أنها توفّرت للمشرفة على دار الأيتام- التي ألقيت فيها بعد أيام من ولادتها- وهو ما لم يحدث أبدًا، فهذه المرأة الخمسينية الضخمة كانت مشاعرها مثل ملامحها: جامدة راكدة باردة، لا تبتسم ولا تتفاهم ولا تعذر، بعلمها كانت تجري كل الانتهاكات اليومية في الدار وبعلمها أيضًا كانت تتم عملية تطبيع الأيتام على هذه الانتهاكات حتى استقرّ في أذهانهم أن العنف عادي والحبس عادي والاغتصاب عادي والإهانة المتكررة من طبائع الأمور. وعندما نجت طفلتنا من هذا الجحيم المقيم لم تكن تعلم أنها نجت ولا أن ما كانت تعيش فيه يوصَف بالجحيم، بالعكس أخذ الأمر منها بعض الوقت حتى تتأقلم مع دنياها الجديدة وتتعرَف على ناس غير الناس، وعندما تأقلَمَت فهمَت. ولذلك فمع أول فرصة واتتها لتكون مسؤولة عن هذه القبيلة اللطيفة من القطط، كان كل همّها ألا تعيد مأساة الدار.. ما هي العلاقة بالضبط بين الأيتام والقطط؟ عمليًا لا توجد أي علاقة، لكن عقلها صنع هذه العلاقة من باب أن القطط كالأطفال مغلوبة على أمرها.
• • •
عندما أخبرتها ربّة البيت أنها ستهدي إحدى قططها الصغيرة لصديقة تحتاج مَن يؤنس وحشتها بعد هجرة وحيدها- انقبض قلبها، خشيت ألا تكون هذه الصديقة على مستوى المسئولية فتمكث القطة لديها يومًا أو بعض يوم وتعيدها لصاحبتها ومَن يدري لعلها حتى تلقي بها في الشارع. من أعماق أعماق قلبها تكره هذا التخّلي الذي يقطع الصلة ويبدَد الشعور بالأمان ويقلب الحياة رأسًا على عقب. تضع نفسها في مكان القطة وتتخيّل أنهم أخذوها من هذا البيت الطيّب بعد أن ارتبطت بكل شِبر فيه فيهجم عليها الكابوس إياه وتنتفض، فلو أنهم أعادوها فإنها حتمًا ستموت. لفرط رعبها لا تفكر في أن القياس على حالتها ليس قياسًا دقيقًا فشتّان هو الفارق بين أن يعيدونها لجحيم دار الأيتام وأن تعاد القطة إلى وَنَس هذا البيت الرحيم، هي لا تفكر في أي شيء ولا تعقل أي شيء إلا أن التخلّي من حيث المبدأ هو الكابوس والخطر والوَحش الذي يتربَص بها خلف الأبواب المغلقة. تقترّب من القطة الصغيرة وتمسح برفق على شعرها وتطرّي عضلاتها بحركات مدّ وثني فتستسلم لها تمامًا وتريها من مظاهر الامتنان ما تحب جدًا أن تراه. تعّد الساعات الأخيرة لها مع القطة وتتمنّى لو أوقفَت عجلة الزمن، ثم يأتي يوم تزورهم فيه الصديقة وتدفع لها ربّة البيت بالقطة ومعها كل تفاصيلها: آنية الطعام والبيت البلاستيكي واللعب والفرشاة وبعض الشرائط الملوّنة التي تلتّف حول رقبتها أو تصنع منها فيونكات.. وفي هذا اليوم كان الوجع عظيمًا.
• • •
مرّ شهران على الواقعة وبدا أن كل شيء تمام وأن الصديقة أنست فعلًا للقطة وأنها ستحتفظ بها ولن تتخلّى عنها أبدًا، لكن هذا لم يكن صحيحًا. الصحيح هو أن مكالمات الصديقة مع ربّة البيت لم تنقطع منذ اليوم الأول وشكواها لها لم تتوّقف: القطة تمزق قماش الصالون، القطة تتعلق بالستائر الغالية، القطة التهمَت أكل الضيوف، القطة تملأ البيت برائحة كريهة.. القطة.. القطة.. القطة. أولئك الذين لم يعتادوا على وجود الحيوانات الأليفة في حياتهم من الصعب عليهم أن يتأقلموا على التعايش معها في الكِبَر. يكون لحياتهم ترتيب ونظام وهذه المخلوقات الضعيفة تعرف كيف تمنح الحب والوفاء والوَنس والبهجة ولكنها لا تعرف كيف تحافظ طوال الوقت على الترتيب والنظام، وحتى لو تدرَبت أو حتى تعلمّت فإن هذا لا يضمن أبدًا أن تظّل وفيّة لما تدرّبت عليه وتعلمّته، وفي بعض الأحيان يكون في خروجها على الترتيب والنظام نوع من العقاب العمدي لأهل الدار إن هم تركوها وذهبوا. وهكذا فَتَحَت الطفلة باب البيت ذات مرة فوجدَت الصديقة أمامها تحمل القطة بين ذراعيها فيما يحمل سائقها كل التفاصيل الصغيرة من أول آنية الطعام حتى الشرائط الملونة. لاااااااا عميقة جدًا خرجَت من جوف الطفلة، وكأن الوحش الذي تخاف منه انقضّ عليها فجأة فلم يترك منها شيئًا يشبهها، وعاد السؤال الذي أرّقها دائمًا ليؤرقها مجدّدًا، سؤال: هل يعيدونني للدار؟ وربما حتى سؤال: متى يعيدونني للدار؟. منكسرة وحائرة وخائفة كانت تبدو القطة مع أنها عائدة إلى مكان يحبها أكثر ويتسامح أكثر مع شقاوتها ورائحتها ومشاكلها جميعًا لكنها لم تعد تثق في أحد، والأرجح أنها تتألم هي الأخرى من الشعور بالتخلّي. خطفَت الطفلة القطة وترَكَت لربة البيت الترحيب بصديقتها، ركضَت إلى غرفتها المكدسّة بالصور والقصص واللعب من كل شكل ولون وارتمت على فراشها تبكي وكانت قطتها تبكي معها.