صعود ورقة الكوكا وسقوطها

آخر تحديث: الأربعاء 13 نوفمبر 2019 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

لا أخجل من الاعتراف بأننى انجذبت ذات مرحلة إلى شخصية رئيس اتحاد مزارعى نبات الكوكا فى بوليفيا. رجل فقير من أصول هندية يقود فلاحين من الأصل نفسه فى مواجهة الإمبراطورية الأمريكية، نصبته عاصمتها واشنطن خصما، بل نصبوه عدوا يضمر الشر للشعب الأمريكى لإصراره على الاستمرار فى غرس وحماية شجرة نبات الكوكا. كانت الولايات المتحدة قد قررت أن شجرة الكوكا التى يزرعها الفلاحون فى بوليفيا لأغراض عديدة ليس أقلها شأنا العلاج، يجرى تصنيعها وتهريبها ليستهلكها المدمنون الأمريكيون. ثم قررت أمريكا منفردة فرض حصار دولى وتأليب المؤسسات الدولية على بوليفيا وحكومتها ممثلة فى شخص رئيسها ايفو موراليس. أعود لتأكيد حالة انجذابى «التعاطفى» إن صح التعبير للرجل وما يمثله وانجذابى الأكاديمى للحالة البوليفية فى منظومة إقليم أمريكا اللاتينية بشكل خاص وبين دول العالم النامى بشكل عام.
***
خمسون مليونا هم سكان أمريكا الجنوبية الأصليون لم يصل واحد منهم إلى منصب هام من مناصب السلطة السياسية فى أى قطر من أقطار القارة قبل أن يتولاه موراليس فى عام 2006. كان إيفو موراليس واحدا من نشطاء الحركات الاجتماعية والسياسية داخل مجتمعات السكان الأصليين، أى المنتسبين لسلالات قبائل الهنود الحمر، هم سكان القارة وقت وصول الرجل الأبيض غازيا ومستوطنا ثم مصاهرا. عاش موراليس فقيرا مضطهدا مثل غيره من شباب السكان الأصليين إلى أن تجاوزت الولايات المتحدة والقوى الحاكمة فى بوليفيا كل الحدود الممكنة لمنع السكان من التوسع فى زراعة نبات الكوكا. قامت ميلشيات بحرق أشجار الكوكا فى بعض المقاطعات وتدمير معامل صنع عجينة الكوكا وإعدادها للتصدير. انتفض الفلاحون ونهض موراليس بمهمة تجميع الفلاحين فى اتحاد لمزارعى الكوكا، ومن هناك وبمساعدة الاتحاد انطلق موراليس إلى ساحة السياسة منافسا الطبقة السياسية التى احتكرت السلطة وهيمنت على المؤسسات الاقتصادية على امتداد قرنين أى منذ حصول بوليفيا على الاستقلال فى مطلع القرن التاسع عشر.
بدأ الرجل نشاطه السياسى ملفتا. انتبه مبكرا إلى أن السياسات اليمينية التى سهلت للشركات الكبرى عملية استنزاف ثروة بوليفيا لن تسمح بتحقيق أهدافه فى الاستقلال الوطنى وتنويع مصادر العمل والثروة فى البلاد وتحرير شعب بوليفيا من أسره وحرمانه من التعليم ومن وظائف احتكرتها الأقلية البيضاء. انتبه إلى أن شعبيته وبناء اقتصاد جديد يعتمدان على مستقبل ورقة الكوكا فحملها معه إلى كل شارع فى مدن بوليفيا وكل مدرسة وكل جامعة. وعندما زار الأمم المتحدة حملها معه ليطلع عليها قادة المجتمع الدولى ويتعرفون عليها باعتبارها أهم رموز النهضة الحديثة فى بوليفيا، وليشهدوا على أن ورقة شجرة صارت هدفا لاعتداءات من إمبراطورية عظمى.
***
لم تتح لى الفرصة لزيارة بوليفيا سواء فى عهد حكم وهيمنة الرجل الأبيض أو فى عهد حكم الرجل الأصلى وصراعه مع أجهزة الإمبراطورية الأمريكية وامتداداتها فى الاقتصاد والمجتمع البوليفى. فرصة كادت تحين ولم تحن. كنت فى سنتياجو، عاصمة شيلى، فى عهد من عهود اليمين المعتدل (إدواردو فراى من الديمقراطية المسيحية) فى الحكم واليسار الديمقراطى (سلفادور أليندي) فى المعارضة. قرر مسئول فى الوزارة التى أتبعها تنفيذ إرادة جهة أخرى رأت ضرورة لنقلى من سنتياجو إلى عاصمة أخرى فى أمريكا الجنوبية. سمعت وقتها أن بنما سيتى عاصمة بنما ولاباز عاصمة بوليفيا كانتا مرشحتين لاستضافتى مدة الأربع سنوات المقررة لنا فى الخارج. تروت الوزارة. وبعد التروى اختارت بيونس آيرس عاصمة الأرجنتين مقرا لى للسنوات الأربع. كان قريبا من موقع التروى من تنبه إلى طفلين لى فى مرحلة مبكرة من التعليم وتنبه فى الوقت نفسه إلى ارتفاع لاباز وخطره على صحتهما. كنا فى دوائر السلك الدبلوماسى نحذر بعضنا البعض من ركوب طائرات صغيرة عندما تكلفنا وزاراتنا بتسليم حقائب دبلوماسية إلى سفارتنا فى لاباز. كانوا يبالغون، كعادة معظم من قضى وقتا فى هذه المهنة، فيزعمون أن الطائرة كانت عندما تقترب من مطار لاباز لا تستعد للهبوط كما تفعل عادة مختلف الطائرات وإنما كانت إذا اقتربت منه استعدت للصعود بسبب الارتفاع الشاهق للعاصمة ومطارها. هذا الزعم كان كافيا لجعلى متحفزا بصورة دائمة، وربما إلى يومنا هذا، لزيارة بوليفيا والنزول أو الصعود فى مطار عاصمتها.
***
هناك فى بوليفيا لمع، منذ الشرارة الأولى، نجم المواطن الأرجنتينى ارنستو جيفارا دى لا سيرنا، وشهرته شى جيفارا، وهناك فى بوليفيا وقع فى أسر مندوبى وكالة الاستخبارات الأمريكية. عذبوه وتبادلوا إطلاق الرصاص عليه مدة يومين. حطموا النجم ولم ينطفئ، أو هكذا أتصور حسب ما يصلنى حتى الآن عن ترددات سيرته فى عديد القارات. أحب جيفارا بوليفيا حبا عميقا. كانت لها مكانة كبيرة فى نفسه. أظن أنه كان ينوى أن يحولها إلى معمل للثوار وجامعة لخبراء الثورة من كل أنحاء العالم. وجد فيها النموذج لمجتمع فقير للغاية وغاضب للغاية. هل من ثائر يطلب أكثر من هذين الشرطين لثورة يسعى لتنشب.؟
***
ايفو موراليس مختف. فاز، حسب زعمه، فى الانتخابات لولاية رابعة فى رئاسة الجمهورية. الجيش رفض هذه النتيجة استنادا إلى تقرير من مقر منظمة الوحدة الأمريكية فى واشنطن يتحدث عن تزييف فى نتائج الانتخابات، ثم طلب من موراليس تقديم استقالته، وعلى الفور قامت عناصر مسلحة من الخطرين على الأمن بالهجوم على بيته وتحطيم محتوياته. حسب الأنباء الواردة ساعة كتابة هذه السطور لا يزال موراليس مختفيا. سمعت أنه عاد إلى القرية أو المقاطعة التى خرج منها حاملا ورقة الكوكا قبل ما يزيد عن عشرين عاما. عاد إلى شعبه الذى ارتفع بالفعل مستوى معيشته ومستوى تعليمه ومستوى شعوره بالكرامة فى مواجهة فلول الطبقة السياسية الفاسدة. هذه الطبقة تعود الآن تحمل ورقة اتهامات لموراليس، تحوى بنودا بعناوين استبداد وتزوير انتخابات واستفتاء سمح له بتجاوز شرط الفترتين فى منصب الرئاسة. نسمع عن أن الفوضى ضاربة أطنابها فى كل الشوارع، وأن قوات الجيش وقوى الأمن الداخلى انسحبت مخلفة محلها عناصر تركب الدراجات الهوائية تسرق وتحرق الممتلكات وترهب الناس.
فى الخارج انقسمت أمريكا الجنوبية على نفسها كعادتها، أنظمة الحكم اليمينية مبتهجة بسقوط أحد أعمدة اليسار فى القارة. البرازيل الرسمية رحبت بإعلان الجيش البوليفى سقوط موراليس بينما خرج لولا دى سيلفا الرئيس السابق اليسارى النزعة من سجنه معلنا دعمه لفقراء بوليفيا ولحكم موراليس. من الأرجنتين سمعنا صوت رئيسها الجديد البيرونى التوجه المناهض للهيمنة الأمريكية والفائز مشاركة مع نائبته فى منصب الرئاسة السيدة كريستينا الرئيس الأسبق للأرجنتين، سمعناهما يؤيدان موراليس بعد أن أسقطا بنفسيهما قبل أيام قليلة وفى انتخابات حرة نظاما يمينيا تعقدت معه الأزمة الاقتصادية ولم يحلها.
***
أليس صحيحا أن الغالبية العظمى من شعوب العالم تشكو من الفجوة الواسعة التى صارت تفصل بينها وبين الطبقة الحاكمة. لذلك ففى كل مكان فى العالم الثورة ناشبة فعلا أو كامنة على وشك أن تنشب؟. لا مبالغة.
أليس صحيحا أيضا أنه فى أى مكان فى العالم الثورة فيه ناشبة أو كامنة لا توجد حلول سهلة لتبريد غضب الشعوب وتهدئة ثوراتها؟ تأمل معى صورتى لبنان والعراق. هناك كما فى غيرهما الأزمات تفاقمت حتى استحكم خناقها.
أليس صحيحا كذلك، وللأسف، أنه فى كل مكان فى العالم كادت المجتمعات تخلو من رجال دولة على مستوى غضب الشعوب وتعقيدات الأزمة الاقتصادية واتساع الفجوة بين أغنياء تزداد ثرواتهم وفقراء تتراكم أسباب فقرهم وأغلبية شبابية الصبر على الفقر والظلم ليس أحد فضائلها.

بوليفيا مثال.