الدكتور حسن حنفى والفكر الغربى
وليد محمود عبد الناصر
آخر تحديث:
السبت 13 نوفمبر 2021 - 8:10 م
بتوقيت القاهرة
لا جدال فى أن وفاة الأستاذ الدكتور حسن حنفى تمثل خسارة فادحة للفكر والفلسفة فى مصر والوطن العربى والعالم الإسلامى، بل والعالم بأسره، نظرا لإسهاماته ــ رحمه الله ــ على مدى أكثر من ستة عقود فى إثراء العقل المصرى والعربى والمسلم والإنسانى بالكثير من الأطروحات الفكرية التى اتسمت بالعمق فى العرض والتحليل واتباع مناهج موضوعية وعلمية وتغليب اعتبارات العقل والبعد عن التحيزات المسبقة، وكذلك كان عطاؤه الفلسفى يعكس سعيه الدائم لتجديد الفكر المصرى والعربى والإسلامى والإنسانى فى سبيل الوصول إلى بلورة نهج جديد فى التعامل مع قضايا التراث ومسارات التاريخ من جهة وتحديات الحداثة والمعاصرة من جهة أخرى.
وقد بدأ الدكتور حسن حنفى رحمه الله مسيرة عطائه الفكرى فى إعادة قراءة ــ ومن ثم إعادة تفسير ــ أهم محطات الفكر الغربى بداية من مرحلة دراساته العليا فى جامعة السوربون الفرنسية الشهيرة فى عقد الستينيات من القرن العشرين، عبر بوابة التعرف على اتجاهات هامة فى الفكر الغربى، وقد تبدى ذلك من خلال عدد من الدراسات المهمة.
وأولاها كانت دراسته المهمة التى تناولت بعض القامات البارزة فى مسيرة تطور الفلسفة المسيحية فى العصور الوسيطة، وركز فيها تحديدا على ثلاثة منهم وهم: «القديس أوغسطينوس»، الذى عاش فى القرنين الرابع والخامس، وهو جزائرى المولد، والفيلسوف واللاهوتى «أسقف كانتربرى أنسلم»، الذى عاش فى القرنين الحادى عشر والثانى عشر، والقديس الكاثوليكى الإيطالى والفيلسوف واللاهوتى «توما الأكوينى»، والذى عاش فى القرن الثالث عشر. وكان للثلاثة، ولا يزال، تأثير كبير على كل من أتى بعدهم من فلاسفة مسيحيين أو أوروبيين أو حتى غربيين بشكل عام، سواء من اتفقوا معهم أو من اختلفوا معهم أو حتى من سعوا إلى بلورة أطروحات مناقضة لأفكارهم.
أما ثانيتها فكانت دراسته لفكر الفيلسوف اليهودى الهولندى «باروخ سبينوزا»، أحد أهم فلاسفة ومفكرى أوروبا فى القرن السابع عشر، والذى بدأ تلميذا للفيلسوف الشهير «رينيه ديكارت»، ولكنه سرعان ما أصبح له مدرسته الفلسفية التى أنشأها وأسماها البعض لاحقا «الفلسفة الأخلاقية»، وكان من أهم كتبه «الأخلاق» وكذلك «رسالة فى اللاهوت والسياسة»، وقد قام الدكتور حسن حنفى بترجمة هذا الكتاب الأخير إلى اللغة العربية والتعليق عليه ونشره فى السنوات الأولى من عقد السبعينيات من القرن العشرين.
وكانت ثالثة الدراسات المهمة للدكتور حسن حنفى فى هذا المجال هى تلك المتعلقة بالفيلسوف والكاتب الألمانى «جوتهارد افرايم ليسينج»، والذى عاش فى القرن الثامن عشر، وكان أيضا كاتبا مسرحيا وناقدا فنيا، ويعتبر أحد رموز عصر التنوير فى ألمانيا وأوروبا، حيث إن كتاباته ومسرحياته كان لها تأثير كبير على تطور الفكر الألمانى والأوروبى، وقد ركز الدكتور حسن حنفى على كتاب «ليسينج» المعنون «تربية الجنس البشرى»، وتناول دفاع الفيلسوف الألمانى عن حرية الفكر بعد دراسته المتعمقة للديانة المسيحية وعلم اللاهوت، إلا أن «ليسينج» درس أيضا اليهودية والمسيحية، ورفض التفسير الحرفى للكتاب المقدس، وبالرغم من إيمانه، كأحد رموز عصر التنوير، بـ«مسيحية المنطق العقلانى»، فإنه حاول تجاوز الخصوصية الدينية من خلال الدعوة إلى «منطق إنسانى» و«أدب إنسانى»، يتجاوزان الحدود بين الديانات والعقائد المختلفة.
أما الدراسة الرابعة التى تعمق من خلالها الدكتور حسن حنفى رحمه الله فى دراسة الفكر الغربى فكانت قد تناولت أحد أهم الفلاسفة الغربيين فى القرن العشرين، وهو الفرنسى «جان بول سارتر»، والذى جمع بين كونه فيلسوفا، أسس للفلسفة الوجودية ويبقى حتى اليوم أحد أهم رموزها ومرجعياتها، وبين كونه روائيا متميزا وكاتبا مسرحيا وناقدا فنيا ومناضلا سياسيا، ومشاركا فعليا فى المقاومة السرية الفرنسية ضد الاحتلال النازى لفرنسا إبان الحرب العالمية الثانية. وقد أثرت فلسفته الوجودية بشكل أو بآخر على غالبية فلاسفة القرن العشرين فى أوروبا، وبالذات فى فترة ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقد أعلى من شأن الحرية كقيمة، سواء على مستوى الأفراد أم الشعوب، ولذا ساند نضال شعب الجزائر للاستقلال عن فرنسا، كما ساند نضال البشر ضد القوى التقليدية والعالم التقليدى.
ومثلت هذه الدراسات المدخل لإسهامات الفيلسوف والمفكر الراحل الكبير الدكتور حسن حنفى للانطلاق فى عملية الغوص فى دراسة وتحليل وتقييم معطيات أهم فلاسفة ومفكرى أوروبا الذين وضعوا الأسس الأيديولوجية والفكرية لعصر النهضة فى أوروبا وما ترتب عليه وارتبط به من مرحلة «الإصلاح الدينى» على الصعيد العقائدى و«الثورة الصناعية» وما أفضت إليه من تطورات نوعية على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية وما ارتبط بها من تحولات سياسية وقانونية، وصولا إلى فلاسفة القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد احتوى كتابان للدكتور حسن حنفى على إسهامات قيمة له فى هذا المجال. وإن كان الأول قد صدر فى نهايات عقد السبعينيات من القرن الماضى وهو كتاب «قضايا معاصرة فى الفكر الغربى المعاصر»، بينما صدر الثانى فى نهاية عقد الثمانينيات من نفس القرن وهو كتاب «دراسات فلسفية»، فقد تناولا منهجين بشكل تكاملى ومتجانس وهما تناول الفلاسفة كأفراد وأطروحاتهم الفكرية من جهة، وتناول القضايا التى كانت محلا لاهتمام الفلاسفة وسعيهم لتفسيرها أو بلورة أسس قوية لمواقف تجاهها من جهة أخرى.
ولعل كل ما تقدم من دراسات للراحل الكريم الفيلسوف الكبير الدكتور حسن حنفى فى الفلسفة والفكر الغربى ومسيرة تطوره التاريخى كان بمثابة التمهيد والإعداد لعمل هام له أعتبره تتويجا لهذا التعمق فى دراسة الفكر الغربى، ولكن مع الوعى التام بأرضية هذه الدراسة الدراسة ومنطلقاتها القادمة من الفكر المصرى والعربى والإسلامى، وأيضا من رؤية إنسانية أعم وأشمل من حدود الرؤى الغربية. وكان هذا العمل قد صدر فى العقد الأخير من القرن العشرين.
والعمل الذى أعنيه هنا هو كتاب «مقدمة فى علم الاستغراب»، وهو ما كان آنذاك بمثابة بادرة تكاد أن تكون غير مسبوقة فى الفكر المصرى والعربى والإسلامى، حيث إنه فيما سبق كان يكتفى الكثير من المفكرين العرب والمسلمين، بل وبعض المفكرين الغربيين من أصحاب التوجهات التقدمية أو الليبرالية، بالسعى لدحض أطروحات المستشرقين الغربيين، أو بعضها، أو التعامل معها بشكل نقدى بصورة عامة، ولكن الدكتور حسن حنفى تجاوز تلك المرحلة، ليبدأ التأسيس لعلم معاكس فى الاتجاه، أسماه بـ«علم الاستغراب» وكتب مقدمته بهدف التمهيد للتعمق فى دراسة الغرب من منظور الشرق ورؤيته ومرجعياته ومصالحه، وهو علم من المفترض أن يغوص فى تحليل الغرب وواقعه وأفكاره وتاريخه وتراثه ومعطياته لتحقيق فهم أفضل وأعمق وأمتن على أسس موضوعية من جانب الشرق ومفكريه وفلاسفته ومثقفيه.
وقد مهد هذا الفهم العميق للفكر الغربى وبواعثه ومحدداته ومسارات تطوره للتمكين الفكرى والمنهجى للدكتور حسن حنفى من التصدى بفاعلية واقتدار لأطروحة «صدام الحضارات» لعالم السياسة الأمريكى «صمويل هنتجتون» فى أعقاب انتهاء الحرب الباردين بين المعسكرين الغربى الرأسمالى والشرقى الشيوعى فى تسعينيات القرن العشرين، حيث قدم فى جزئين باللعة الإنجليزية طرحا مضادا قائما على الدعوة إلى الحوار الجاد والتعايش البناء والتعاون المثمر فيما بين الثقافات والأديان المختلفة من منطلق الانتماء للحضارة الإنسانية الواحدة وفى سبيل مواجهة وحل التحديات التى تواجه البشرية بأسرها، على أسس الاحترام المتبادل والإعلاء من قيم العدالة والسلام والتكافؤ والإنصاف والمشاركة.
وهكذا عرضنا لجانب واحد فقط من جوانب كثيرة وثرية ومتنوعة للعطاء الفكرى للفيلسوف الراحل الدكتور حسن حنفى، وهو دراسته المتعمقة للفكر الغربى وتمكنه من التعامل معه بجدية وفاعلية واقتدار، أثابه الله بقدر عطائه الفياض للفكر المصرى والعربى والإسلامى والإنسانى.