محمد عناني.. وترجمة إدوارد سعيد
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 14 يناير 2023 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
ــ 1 ــ
من بين أبرز منجزات الراحل الكريم الأستاذ الدكتور محمد عنانى ــ على الأقل بالنسبة لى ــ ما قدَّمه إلى المكتبة العربية فى العقد الأول من الألفية الثالثة لبعض كتب المفكر والناقد والمنظر الأمريكى فلسطينى الأصل إدوارد سعيد (1935ــ2003) ؛ وقد صدرت الترجمة العربية لها على الترتيب، كالتالى: «تغطية الإسلام» (2005) و«المثقف والسلطة» (2006)، وأخيرا كتاب إدوارد سعيد العمدة «الاستشراق» (2006).
وإدوارد سعيد هو «المثقف الإنسانى» العالمى، و«الناقد الأدبى» الفذ الذى دشن بكتابه الاستثنائى «الاستشراق»، تيارا فكريّا ونقديّا كاملا هو «تيار ما بعد الاستعمار» أو «نقد ما بعد الكولونيالية» الذى احتل مساحة عريضة وواسعة فى خريطة الفكر النظرى النقدى، والدراسات الأدبية والثقافية، ومثَّل مرحلة مهمة فى مسارات «النظرية»، فيما عرف أولا بتيار ما بعد البنيوية، ثم مشاركته فيما سيتبلور لاحقا، ويُعرف باسم «النقد الثقافى» و«الدراسات الثقافية».
ــ 2 ــ
صدرت الطبعة الأولى من كتاب «الاستشراق» باللغة الإنجليزية عام 1978، وفى ذات السنة والتى تليها سرعان ما انتشر الكتاب، وتسارعت ترجماته إلى لغات الدنيا، وظهرت ترجمته العربية الأولى بعد ثلاثة أعوام فقط من ظهوره بالإنجليزية.
وقد ترجم هذا الكتاب لأول مرة إلى اللغة العربية على يد الناقد البنيوى كمال أبو ديب، وصدر عن مؤسسة الأبحاث العربية فى بيروت عام 1981، ولطالما كانت هذه الترجمة «الغريبة» محل إشكال وإلغاز ونقاش وجدل، ربما ما زال مستمرا حتى يومنا هذا!
ومنذ ذلك التاريخ (1981) وحتى العام 2006 (العام الذى أصدر فيه المرحوم محمد عنانى ترجمته العربية لكتاب «الاستشراق») اعتبر الكثيرون أن الكتاب لم يترجم بعد إلى اللغة العربية! ومن كان فى حاجة إلى الكتاب ويجيد الإنجليزية حمد الله على هذه الإجادة، ورجع إلى الأصل الإنجليزى، ووقى نفسه عناء فك شفرات وطلاسم الترجمة العربية!
فترجمة أبى ديب، ومع كل الاحترام والتقدير والتوقير لشخصه وقيمته العلمية والأكاديمية الفذة، ولموقعه من حركة النقد البنيوى فى النقد العربى المعاصر، كانت بالفعل معقدة وملتبسة وغامضة وفيما أظن لم تؤد المقصود منها ولا الغاية (إذا كانت فى الأساس قائمة على تعريف القارئ العربى بأهم كتب إدوارد سعيد وحجر الزاوية فى مشروعه الفكرى والنقدى لتقويض أسس المشروع الكولونيالى ونسفه من أساسه).
ــ 3 ــ
فالبعض (بل الكثير على الحقيقة، وأنا منهم) يرى أن ترجمة أبى ديب «ترجمة تحتاج إلى ترجمة!» أو كما يصفها الناقد الراحل جابر عصفور «ترجمة باعدت بين الكتاب والذيوع المتوقع له بالعربية»، بل إن عددا من النقاد والمفكرين المقربين إلى إدوارد سعيد، قد أكدوا عدم رضاه هو شخصيا عن هذه الترجمة التى صارت (بالإضافة إلى أن النص مكتوب بإنجليزية رفيعة المستوى) بدورها حائلا وحاجزا دون تلقيها التلقى الأمثل فى العالم العربى.
وظللنا على هذه الحال إلى أن أكرمنا الله فى عام 2006 بصدور ترجمة الدكتور محمد عنانى ــ رحمه الله رحمة واسعة وجازاه خير الجزاء ــ تلك الترجمة العربية التى استطعتُ من خلالها ــ وللمرة الأولى ــ التعرف على «استشراق» إدوارد سعيد، وتكون هذه هى اللحظة المؤسسة للتعرف على «سعيد» فى ثوبه العربى «القشيب».
وبغض النظر عن بعض الأصوات التى تعالت فى بعض الأماكن بالتحفظ على هذه الترجمة أو اعتبارها «ميسرة أكثر من اللازم» أو أنها «سهَّلت إدوارد سعيد بأكثر مما ينبغى»، بالنظر إلى صعوبته وكثافته الأسلوبية بل وغموضه أحيانا فى لغته الإنجليزية، فإنها الترجمة الوحيدة ــ فيما أظن ــ التى كتب لها الانتشار والذيوع فى الثقافة العربية، منذ صدورها قبل سبعة عشر عاما!
ــ 4 ــ
وكأن عنانى قد أراد أن يتمرس بأسلوب سعيد وطرائقه اللغوية، وخياراته التعبيرية، فى الكتابين اللذين ترجمهما لعنانى قبل «الاستشراق»، وهما تغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، كى يعد العدة ويتصدى لترجمة كتابه الأهم والعمدة بين مؤلفاته وأعماله. يقول عنانى فى مقدمة ترجمته:
«وكأنما كنت أحس أننى صائر حتما إلى ترجمة «الاستشراق» يوما ما، فبدأت اهتمامى بترجمة إدوارد سعيد، بعد ترجماتى لشكسبير وميلتون وبايرون، فى الأعوام الأربعة الأخيرة، بكتابٍ يمثل الفترة الأسلوبية الصعبة عند إدوارد سعيد، وهو كتاب (تغطية الإسلام) فى عام 2005، وأردفته بكتابٍ أيسر أسلوبا، ويمثل مرحلة لاحقة لدى هذا الكاتب الكبير، وهو (المثقف والسلطة).
وعندما أقبل القراء العرب على ترجمتى لهما، وتقبلوهما بقبول حسن، أحسستُ أننى وجدت السبيل الصحيح لمعالجة الاستشراق، فتوفرت على ترجمته بإخلاصٍ ودأب، مؤمنا بأننى أخاطب القارئ العربى اليوم. وأن مهمتى تنحصرُ فى أمريْنِ: الأولِ هو النقلُ الواضحُ لأفكار إدوارد سعيد، مهما كلَّفنى ذلك الوضوحُ من عناءٍ فى إعادة صوغِ بعضِ التراكيبِ الخاصَّةِ باللغة الإنجليزيةِ حتى تستسيغَها الأذنُ العربيةُ، والثانى هو الحفاظُ ــ فى حدود أعرافِ الفصحى المعاصرةِ ــ على السمات المُمَيِّزَةِ لأسلوب إدوارد سعيد، حتى يظلَّ أسلوبُ الكاتبِ عَلَما عليه بالعربية، مثلما هو عَلَمٌ عليه بالإنجليزية، وهما أمرانِ متلازمان».
ــ 5 ــ
جاءت ترجمة عنانى لنصوص إدوارد سعيد سائغة تماما، لأنها كانت تتغيا فى المقام الأول السهولة واليسر وبساطة التركيب والاصطلاح، ووضوح المعنى، وقد انتشرت هذه الترجمة انتشارا كبيرا ولاقت استجابة غير متوقعة من جمهور القراء فى العالم العربى، وجمهور إدوارد سعيد القارئ بالعربية بصفة خاصة.
وأخيرا... وبغض النظر عن الاختلافات العميقة فى تصور عملية «الترجمة» ودورها وممارستها، من حيث هى فعل معرفى وثقافى فى المقام الأول، فإن المقارنة بين الترجمات المطروحة لـ«الاستشراق» ــ فى اللغة العربية ــ مغرية بدراسة أكاديمية متخصصة، خصوصا مع توافر ثلاث ترجمات عربية للكتاب الآن (إذا أهملنا الترجمات التى سطَت على ترجمة كمال أبو ديب أو ترجمة محمد عنانى أو كليهما معا!) .. ولعل هذا يكون حديثا فى موضعٍ آخر يتسع له الوقت والجهد!