المبانى التاريخية المصرية.. بين الإعمار والاندثار

أيمن النحراوى
أيمن النحراوى

آخر تحديث: الإثنين 14 فبراير 2022 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

فى ظل الحياة المعاصرة باتت القيم بالنسبة للكثيرين مسألة نسبية تتعلق بالمنفعة الحاضرة التى تمثل لهم قيمة مادية، بحيث يمكن لهؤلاء أن يتصوروا أن انهيار أو سقوط مبنى عريق فى موقع متميز من المدينة أو العاصمة سوف يكون أكثر نفعا من بقائه، وعلى اعتبار أن الفرصة البديلة سوف تكون إقامة مبنى جديد أو مول تجارى يحقق الربح ويوجد وظائف، وهذا الفكر موجود لدى الكثير من العامة فى كل المجتمعات والبلاد دون استثناء، بحكم تعليم سطحى أو ثقافة محدودة أو عقل مقفـر لا يدرك أن القيم المعنوية قد تكون أعلى كثيرا من القيم المادية.
إن خير مثال على ذلك هو اللوحات الفنية العالمية الشهيرة لفنانين مثل دافنشى أو فان جوخ أو رينوار، هذه اللوحات لو احتسبت قيمتها ماديا فقط لكان ثمنها لا يتعدى عدة دولارات بحكم ما فيها من قماش وألوان، فى حين أن مصدر قيمتها الحقيقية هو تاريخها العريق والإبداع الفنى فى رسمها وشهرة الفنان الذى أبدعها، وهى قيم تقدر للوحة الواحدة منها لو بيعت فى مزاد عالمى فى لندن أو نيويورك بعشرات الملايين من الدولارات، أى أن اللوحة الواحدة قد يتجاوز ثمنها ثمن وزنها من الذهب عشرات المرات بسبب قيمتها التاريخية والمعنوية والإبداع الفنى فيها.
والمبانى التاريخية ينطبق عليها ذات المعنى، بل إنها تحمل دلالات أعمق وأعظم لما قد يكون قد مر بداخلها من أحداث ووقائع لها معنى ورمزية كبرى، أو لمن تردد عليها وعاش فيها من الشخصيات التاريخية المؤثرة، ولذلك فالزمان والمكان والوقائع والشخصيات تعطى لهذه المبانى التاريخية بعدا يجعل لها قيمة عظيمة بما تمثله من تراث يمثل مقوما عتيدا من مقومات الوطن وتاريخه، بل وتمثل أيضا أصلا من أصول الوطن وكـــنزا من كـــنوزه يجدر الحفاظ عليه وصيانته وحمايته.
• • •
إننا كشعب مصرى نفتخر بأن الله سبحانه وتعالى قد وهب لمصر عبقرية فريدة فى الزمان والمكان، أقام المصريون خلالها وعلى مر العصور أعظم المبانى والصروح والمعابد، والتى بات كل منها معبرا عن ذلك العصر، وبذلك باتت مصر أحد أغنى بلدان العالم بمنشآتها وآثارها المعبرة عن حضارتها فى كل العصور، ولا نبالغ بالقول إذا ذكرنا بأن مدينة القاهرة لا تدانيها مدينة فى العالم من حيث العدد الهائل من المبانى والمنشآت التى أقيمت فيها عبر كل العصور.
وفى مقدمة تلك المبانى التاريخية العريقة مبنى الجمعية الجغرافية المصرية بالقاهرة، والتى تعد أقدم تاسع جمعية جغرافية فى العالم، وأول جمعية جغرافية خارج أوروبا والأمريكتين، إذ تأسست فى فرنسا أول جمعية جغرافية فى العالم عام 1821م، وتلتها الجمعية الجغرافية الألمانية عام 1828م، ثم الجمعية الجغرافية الفلكية فى بريطانيا عام 1830م، ثم تأسست أول جمعية جغرافية خارج أوروبا فى المكسيك عام 1833م، ثم تأسست جمعية فرانكفورت الجغرافية عام 1836م، ثم الجمعية الجغرافية الروسية عام 1845م، والجمعية الجغرافية الأمريكية 1851م، والجمعية الجغرافية البرازيلية عام 1863م، ثم الجمعية المصرية الخديوية عام 1875م، وهى بذلك تاسع أعرق جمعية جغرافية فى العالم.
وليس تاريخ تأسيس الجمعية فقط هو الذى يعطيها هذا العبق التاريخى الفريد، بل وضع مصر وتوجهاتها الاستراتيجية فى ذلك الوقت، حيث استهدف الخديو اسماعيل آنذاك استكشاف منابع النيل وتأمين تواجد مصر وامتداد جذورها الإفريقية، فى وقت بلغت فيه التوجهات الاستعمارية الأوروبية ذروتها، وباتت الدول الأوروبية تتصارع للسيطرة على القارة الإفريقية، فتأسست الجمعية الجغرافية الخديوية لتكون بمثابة القاعدة العلمية للكشوف المصرية فى إفريقيا والتعرف على جغرافيتها وشعوبها، وكشف منابع نهر النيل الخالد، وهو ما قام به العديد من الرعيل الأول العظيم من الرحالة والمستكشفين الذين قاموا بكشوفهم ورحلاتهم والتى وصلت بهم إلى خط الاستواء حاملين علم مصر، ومعززين وجودها وترابطها التاريخى مع شعوب شرق ووسط إفريقيا.
ومع تولى السلطان حسين كامل حكم البلاد وقيام السلطنة المصرية منفصلة عن الدولة العثمانية، تغير اسم الجمعية إلى الجمعية الجغرافية السلطانية عام 1917م، وبعد قيام النظام الملكى فى مصر عام 1922م بتولى الملك فؤاد تغير اسم الجمعية إلى الجمعية الملكية المصرية، وبعد قيام ثورة 23 يوليو 1952م وتأسيس الجمهورية تغير اسم الجمعية إلى اسمها الحالى ليكون الجمعية الجغرافية المصرية.
ومع صدور المرسوم الخديو بتأسيس الجمعية فى 19 مايو 1875م قرر الخديوى إسماعيل أن يكون مقر الجمعية هو قصر محمد بك الدفتردار زوج الأميرة زينب هانم ابنة محمد على باشا، وفى عام 1878م تم نقل مقر الجمعية إلى مبنى المحكمة المختلطة القديمة، وظلت به حتى عام 1895م، وبعد ذلك تم نقل المقر إلى مقر جديد عند ناصية شارعى قصر العينى ومجلس الشعب، وقد تم هدم هذا المبنى لاحقا وحل محل عدد من المبانى الملحقة بمجلس النواب، وانتقلت الجمعية بعدها إلى مقرها الحالى.
أما عن المبنى التاريخى العتيد الحالى للجمعية فيعود تاريخ بنائه لعام 1865م عندما تأسس ليكون مدرسة لبنات الخديوى وصديقاتهن من كبار العائلات، ثم اتخذ المبنى بعد ذلك عام 1902م كمقر لوكالة حكومة السودان ولمدة الـ 20 عاما التالية، حتى أصدر الملك فؤاد مرسوما فى عام 1922م بتخصيص المبنى كمقر للجمعية الجغرافية الملكية، التى انتقلت إليه فى الثانى من أبريل عام 1925م الموافق لذكرى مرور خمسين عاما على تأسيس الجمعية.
• • •
المبنى الحالى ليس فقط بناء قديما وعريقا، لكنه يعد من الداخل تحفة معمارية بقاعاته وغرفه وأعمدته وأبوابه بل وكل مكوناته، فضلا عن محتوياته الثمينة القيمة من عشرات آلاف الكتب والمراجع والأطالس والخرائط والمخطوطات والوثائق النادرة القيمة واللوحات والتماثيل، وكل منها فى حد ذاته يعد قطعة تاريخية لا تقدر بثمن، وهى فى مجملها ثروة وطنية عظيمة لا يملك الإنسان إلا الوقوف أمام كل قطعة فيها فى صمت وخشوع وتقدير، فنحن دون مبالغة نقف فى معقل الجغرافيا ومحراب التاريخ.
إن الجمهورية الثانية بقيادة سيادة الرئيس السيسى، قد خطت خطوات عملاقة لتحقيق نهضة شاملة غير مسبوقة لازدهار مصر وقوتها، بفتح آفاق جديدة رحبة للوطن فى جميع الاتجاهات وعلى مختلف الأصعدة، وفى الوقت الذى تتجه فيه الدولة بكامل أجهزتها ودواوينها ووزاراتها إلى العاصمة الإدارية الجديدة، يمكن أن يكون ذلك أيضا مجالا لإعادة الأمور إلى نصابها السليم فيما يتعلق بالمبانى التاريخية مثل الجمعية الجغرافية المصرية، فمع انتقال مجلس النواب إلى العاصمة الجديدة يمكن إعادة النظر فى الأسوار ومنظومة الأمن الحالية التى تحتم على الزائر أو الزائرة للجمعية أن يمر عبر أمن مجلس النواب وتدابيره وإجراءاته، كما آن الأوان أن تنتقل هيئة الطرق والكبارى من مبناها وتسليمه للجمعية، وكذلك مقر حى وسط القاهرة الممكن انتقاله إلى مقر آخر وتسليم مبناه ليخصص لإدارة وباحثى وعلماء الجمعية الجغرافية.
فى ذات الإطار ومع اعتبار تاريخ إنشاء المبنى والظروف البيئية المحيطة به كارتفاع مستوى المياه الجوفية وتأثير الرطوبة فى الجدران وتآكل الأساسات، الأمر الذى يعرض المبنى لمخاطر جسيمة قد تتمثل فى انهيار أجزاء منه أو انهياره بأكمله على محتوياته الثمينة التى تعد كنزا تراثيا وطنيا لا يقدر بثمن، من أجل ذلك يحتم الأمر إجراء عملية شاملة لصيانة وترميم مبنى الجمعية وتطوير إجراءات حمايته وتأمينه، وبأن يعتبر ذلك فى حد ذاته مشروعا تراثيا قوميا، تسهم فيه الدولة والحكومة بكامل وزاراتها وهيئاتها، بل وتسهم فيه شركات البناء والإنشاءات بالإسهام فى ذلك على أن يقتطع إسهامها المالى من وعاء الضريبة السنوى لها طوال عمر المشروع.
هذا الأمر سيأتى حتما بتكامل وتناغم مع ما تقوم به الدولة حاليا من تنفيذ خطة تطوير شامل لقلب العاصمة والحفاظ على المبانى السكنية التاريخية للقاهرة الخديوية، والتى أحدثت نقلة نوعية حضارية فى مدينة القاهرة العريقة حاضرة مصر وعاصمتها، والتى بعثت روحا جديدة فيها أعادت إلى الأذهان ذلك الزمن الجميل الذى كانت فيه القاهرة تضارع أجمل المدن والعواصم الأوروبية الكبرى، تخطيطا ونظاما ونظافة ورونقا.
إن المبانى التاريخية بالنسبة لأى بلد هى جزء لا يتجزأ من تراثه الوطنى، وشاهد قائم على إسهامه الحضارى وعراقته، وكم من بلاد وشعوب فى هذا العالم تنظر إلى مصر إعجابا وتقديرا وإجلالا لذلك التاريخ والإسهام الحضارى العظيم، بل إننا لا نبالغ بالقول بأن دولا كبرى تتمنى أن يكون لها ولو جزء من ذلك التاريخ المصرى العريق الضارب بجذوره إلى أعماق التاريخ بعدة آلاف من السنين، فى حين أن قيام وكيان وتاريخ هذه الدول الكبرى لا يتجاوز عدة مئات من السنين، ولا يتبقى إلا أن نقول إنها مصر وعظمة مصر، حفظ الله مصــر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved