السمات الشخصية المظلمة فى بيئة العمل
صحافة عربية
آخر تحديث:
الجمعة 14 مارس 2025 - 7:15 م
بتوقيت القاهرة
تُعرِّف نظرية السمات المظلمة (Dark Triad) ثلاث سمات شخصية سلبية: النرجسية (الغرور والاستغلالية)، الميكافيلية (التلاعب لتحقيق المكاسب)، والسيكوباتية (القسوة وعدم الشعور بالذنب)، ومع تطور الأبحاث، أُضيفت السادية (الاستمتاع بمعاناة الآخرين) لتشكل الرباعى المظلم .(Dark Tetrad) فى بيئة العمل، تؤدى هذه السمات إلى سلوكيات مدمرة مثل القيادة الاستبدادية، الاستغلال الوظيفى، والتنمر، مما يؤثر على الإنتاجية والثقافة التنظيمية.
تفسير السمات المظلمة يعتمد على السياق الثقافى والسياسى، ولا يُقصد به تشخيصًا نفسيًا دقيقًا، فقد يحصل تداخل بين الصفات، حيث قد يجمع الشخص بين أكثر من صفة (مثل السيكوباتى والميكافيلى)، والتشخيص المهنى يجب أن يُترك لتقييم الأخصائى النفسى، لأن الصفات قد تشبه اضطرابات أخرى. وعند مواجهة مثل هذه الشخصيات؛ لابد من استشارة مختص نفسى للمساعدة فى إدارة التعامل معه بشكل آمن. وحينها لابد من الحماية الذاتية، ووضع الحدود الواضحة والابتعاد عن العلاقات السامة هى أفضل استراتيجيات التعامل.
تشير الإحصائيات إلى انتشار مقلق لهذه السمات فى الفضاء المهنى؛ حيث يشير الدليل التشخيصى والإحصائى للاضطرابات النفسية (DSM-5) الصادر عن الجمعية الأمريكية للطب النفسى (APA) إلى أن 1-6 % من السكان يعانون من اضطراب الشخصية النرجسية، مع هيمنة الذكور. وفى دراسة من جامعة كامبريدج عام 2019 تشير إلى أن 3-5 % من المديرين يظهرون سمات ميكافيلية عالية، غالبًا فى المناصب القيادية. وتقرير BBC Worklife، عام 2021؛ أفاد أن 1% من الموظفين يحملون سمات سيكوباتية، وترتفع نسبتهم إلى 3-4 % فى الوظائف عالية الضغط. وأن 18 % من الموظفين تعرضوا لتنمر ممنهج من مديرين ساديين.
تُظهر الأبحاث تأثيرات مدمرة لهذه السمات؛ ففرق العمل بقيادة نرجسيين تعانى من انخفاض بنسبة 23 % فى التعاون بسبب استحواذ القائد على الفضل (Journal of Applied Psychology, 2020)، بينما ترتفع معدلات دوران الموظفين بنسبة 40 % فى ظل قيادة ميكافيلية. حتى أن 65% من حالات الاحتيال المالى فى الشركات ترتكب بفعل سمات سيكوباتية أو ميكافيلية.
يؤكد عالم النفس روبرت هير: «القائد النرجسى يبنى إمبراطوريته على أنقاض فريقه، فهو يرى الموظفين مجرد أدوات لتحقيق مجده الشخصى». بينما تُلخص مقولة نيكولو ميكافيلى جوهر الميكافيلية: «الغاية تبرر الوسيلة»، وهو مبدأ يُطبق فى بيئات العمل التنافسية غير الأخلاقية. ومن ناحية أخرى، يُعرِّف ماركيز دى ساد السادية بأنها: «العنف ليس شرًا إذا كان وسيلة للسيطرة»، مما يعكس نهجًا مدمرًا قد يتسلل إلى الثقافة التنظيمية.
فى المقابل، تُبرز السمات الإيجابية مثل التعاطف والنزاهة تأثيرًا معاكسًا، حيث أشارت دراسة علمية بأنها تزيد الولاء الوظيفى بنسبة 50 %. ومع ذلك، تظل السمات المظلمة تحديًا كبيرًا يتطلب وعيًا وسياسات صارمة لتعزيز الشفافية والمحاسبة. وكما قال الفيلسوف آلان دو بوتون: «السمات المظلمة ليست قدرا، لكنها خيار يكشف عن ثقافة المؤسسة».
تُحدث السمات المظلمة آثارًا مدمرة على الأفراد والفرق والمنظمات ككل، تشمل انخفاض الإنتاجية بسبب سلوكيات مثل الاستحواذ على العمل، ورفض التعاون، وخلق صراعات. وترتبط القيادة السيكوباتية بزيادة معدلات الفساد المالى مما يهدد استقرار الشركات. والسمات المظلمة تزيد معدلات دوران الموظفين بسبب التنمر أو الاستغلال، مما يرفع تكاليف التدريب والاستبدال.
الشركات التى تتسامح مع القادة النرجسيين أو السيكوباتيين تفقد ثقة العملاء والمستثمرين. مثال: انهيار شركة إنرون بسبب قيادة استبدادية وفساد مالى. ويتجنب الموظفون العمل مع النرجسيين أو الساديين خوفًا من الاستغلال أو الإذلال، مما يُعطل تحقيق الأهداف الجماعية. وتُحفز السمات المظلمة التنافس غير الصحى والغيرة، مما يرفع معدلات النزاعات الداخلية.
يتعرض الموظفون الذين يتعاملون مع قادة مصابين بالسمات المظلمة للإرهاق الوظيفى وأعراض الاكتئاب والقلق المزمن وفقدان الدافع. ويرتبط العمل فى بيئة سيكوباتية أو سادية بزيادة أمراض القلب والأوعية الدموية بنسبة بسبب التوتر المزمن. وتُعزز السمات المظلمة ثقافة «البقاء للأقوى» على حساب القيم الأخلاقية، مما يُضعف الابتكار والاستدامة. يقول سيمون سينك: «الثقافات السامة تُنتج موظفين يخشون الفشل أكثر من سعيهم للنجاح». الموظفون المهرة يهجرون الشركات التى تتسامح مع السمات المظلمة، مما يُقلل التنافسية السوقية.
السمات المظلمة قد تهيمن مؤقتًا، لكنها تظل هشة أمام قوة القيم الإنسانية. يقول سيمون سينك: «القائد الحقيقى لا يُطالب بالطاعة، بل يُلهم الولاء عبر الأفعال النابعة من القلب». وبالتزامن مع انتشار حركات مثل القيادة الواعية (Conscious Leadership) والشركات ذات الغرض الاجتماعى، أصبح التحول نحو السمات المضيئة خيارًا استراتيجيًا للبقاء فى عالم الأعمال.
والحل يكمن فى التكيف الإيجابى، حيث تُصبح المؤسسات مرآةً لقيمها، وتُعيد تعريف النجاح ليشمل ليس فقط الأرباح، بل أيضًا رفاهية الأفراد ونمو المجتمع.. كما لخص آلان دو بوتون: «النجاح الحقيقى هو أن تُغادر مكانًا أفضل مما وجدته».
محمد الحمزة
جريدة الرياض السعودية