تحالف الديمقراطيات
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 14 يونيو 2021 - 7:30 م
بتوقيت القاهرة
غداة تدشينه أولى جولاته الرئاسية الخارجية، التى استهلها بالقارة العجوز، وجه الرئيس الأمريكى جو بايدن رسالة تحذيرية إلى روسيا والصين، أكد خلالها عودة بلاده القوية إلى معترك الدبلوماسية الدولية متعددة الأطراف، وعزمها على تعزيز أواصر التحالف الاستراتيجى مع الشريك الأوروبى فى مواجهة موسكو وبكين وتحديات عالمية أخرى من قبيل: الحروب السيبرانية، تغير المناخ، حماية التنوع الحيوى، واحتواء جائحة «كوفيدــ19». كذلك، شدد بايدن على سعى إدارته لاستنفار الدول الديمقراطية قاطبة، بقيادة أمريكية، لخوض ما وصفه بـ«صراع قوة عقائدى» ضد ائتلاف أنظمة سلطوية، مثل الصين، وروسيا، وكوريا الشمالية، وإيران.
وخلال قمة كورنوال، وقع بايدن مع رئيس الوزراء البريطانى جونسون، نسخة جديدة من «ميثاق الأطلسى» الذى سبق وأبرمه الرئيس الأمريكى الراحل فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطانى الأسبق وينستون تشرشل عام 1941، وتضمن «قيما غربية»، على شاكلة دعم الديمقراطية والاختيار الحر للحكومات، وتحرير التجارة، وخفض التسلح، ما أسهم فى صياغة عالم ما بعد النازية، إثر إنشاء الأمم المتحدة عام 1945، ثم تأسيس الحلف الأطلسى عام 1948. وقد أكدت لندن أن الميثاق الأطلسى الجديد، الذى يتوسل إنعاش علاقاتها التاريخية بواشنطن، وإحياء التحالف الاستراتيجى الأوروأطلسى، ورسم ملامح عالم ما بعد كورونا، وتحديث النموذج الليبرالى كمرجعية للنظام الدولى السائد منذ العام 1991، منبثق عن سلفه، وسيعملان سويا على حماية القيم المشتركة، والدفاع عن الديمقراطية، وإعادة الاعتبار لمبدأ الأمن الجماعى، وبناء نظام تجارى عالمى عادل ومستدام.
ما هى بمستحدثة فكرة التئام الديمقراطيات. فخلال القرن الثامن عشر، استقت الأدبيات السياسية الغربية «نظرية السلام الديمقراطى أو الليبرالى» من أعمال الفيلسوف الألمانى كانط، ثم من دراسات المفكر السياسى توماس بين. وقد انصبت أطروحتها الأساسية فى المطالبة بأن تغدو الديمقراطية منهاجا كونيا تتبناه دول العالم جميع، حتى يعم السلام. كون الدول الديمقراطية لا تقتتل فيما بينها، كما يحاط قرار الحرب فيها بكثير من الحكمة، إذ يتأتى من عملية إجرائية وأطر مؤسسية غاية فى التعقل والرشاد.
إبان الحرب العالمية الثانية، صكت واشنطن المصطلح الدعائى الشهير «العالم الحر»، لوصف نصف الكرة الغربى بقيادة الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، مقابل العالم الفاشى الخاضع لهيمنة ألمانيا النازية والامبراطورية اليابانية فى نصف الكرة الشرقى. وبمجرد اندلاع الحرب الباردة عام 1945، أبقت واشنطن على ذات المصطلح ليشير إلى الدول غير الشيوعية، أو الحليفة للولايات المتحدة، أو الأعضاء بالكومنويلث، أو تلك التى تحظى بعضوية تكتلات دولية غربية كحلف الناتو والاتحاد الأوربى. إضافة إلى الدول السلطوية والديكتاتورية، التى تنتهج نهجا رأسماليا وتنضوى تحت لواء مناهضة الشيوعية، كإسبانيا فى عهد فرانسيسكو فرانكو، جنوب أفريقيا خلال حقبة الفصل العنصرى، واليونان تحت حكم المجلس العسكرى.
فى العام 2000، أسست الولايات المتحدة من وارسو، ما عرف وقتها بـ«مجتمع الديمقراطيات»، بوصفه منظمة غير رسمية تضم شخصيات سياسية تمثل عشرات الدول والحكومات. وعندما ترشح الجمهورى جون ماكين لخوض سباق الرئاسة ضد الديمقراطى باراك أوباما فى عام 2008، دعا إلى إنشاء «عصبة الديمقراطيات»، التى توقع لها أن تضم أكثر من مائة دولة. وفى يناير الماضى، أورد تقرير لصحيفة «وول ستريت جورنال» أن بايدن سيعمل مع الديمقراطيات الغربية لمحاصرة بكين. وقبيل قيامه بجولته الأوربية، أكد الرئيس الأمريكى فى مقال رأى بصحيفة «واشنطن بوست»، عزمه تأسيس «تحالف للديمقراطيات»، ليثبت نجاعة التحالفات والمؤسسات الديمقراطية، التى تشكلت خلال القرن الماضى، فى مجابهة تهديدات وأزمات عصرنا الحاضر.
وفور إعلان فوزه بالرئاسة، أبدى بايدن استعداده لتنفيذ وعده الانتخابى لجهة تنظيم قمة تضم ديمقراطيات العالم، لصياغة أجندة مشتركة تقوى المؤسسات الديمقراطية وتتصدى للاستبداد. وهو المشروع الذى تلقفته المملكة المتحدة، مقترحة إنشاء مجموعة «د10»، التى ستضم مجموعة الدول السبع الصناعية، إلى جانب أستراليا، والهند، وكوريا الجنوبية. وحينما رشح لمنصب وزير الخارجية فى إدارة بايدن، أشار أنتونى بلينكين، إلى انقسام العالم إلى فسطاطين أحدهما ديمقراطى والآخر استبدادى، متهما الحلفاء بالتقصير فى التعاطى مع ذلك الانقسام. أما كبار مستشارى بايدن، فقد أكدوا نيته عقد ما أسماه «قمة الديمقراطيات»، بهدف إيجاد بديل واضح لنظام الحكم الصينى الاستبدادى، ومعالجة الإشكاليات المتعلقة بأمن المعلومات، والذكاء الاصطناعى.
عشية توجه بايدن إلى أوربا، تسامى الحزبان الديمقراطى والجمهورى فوق خلافاتها المزمنة، ليتفقا على ضرورة التصدى للتهديدات المنبعثة من التطلعات الصينية المقلقة، كحرص بكين على التفوق بمجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى، وسعيها لتسويق نموذجها الاستبدادى. ومن ثم، أقر مجلس الشيوخ مشروع «قانون الابتكار والمنافسة الأمريكية»، الذى يستهدف استبقاء ريادة واشنطن للعالم عقودا مقبلة، عبر تخصيص 250 مليار دولار لتعزيز قدرة البلاد على دحر الصين المتسلطة علميا وتكنولوجيا.
متنوعة هى المعوقات التى تتربص بمشروع تحالف الديمقراطيات «البايدنى». فعلاوة على الجدل الذى يلاحق مفهوم الديمقراطية هذه الأيام، تعرضت «نظرية السلام الديمقراطى» لنقد فكرى ومراجعة علمية، بعدما أثبتت الخبرة التاريخية تورط دول ديمقراطية شتى فى تقويض السلام وإذكاء الحروب، ليس فقط إزاء دول لا تصنفها ديمقراطية، ولكن فيما بين الديمقراطيات ذاتها. ومع نهاية القرن المنصرم، انتقد أكاديميون مصطلح «العالم الحر»، الذى اصطنعه الغرب، جراء ما يحمل فى طياته من تمييز، وتناقض بين استخدامه الدعائى وتطبيقه الواقعى. فلقد طوى بين ثناياه دولا منبتة الصلة بالديمقراطية، إذ قبل الناتو عضوية دول تحكمها ديكتاتوريات عسكرية مثل تركيا، واليونان، والبرتغال، بينما لم تتورع واشنطن عن بناء شراكات استراتيجية مع أنظمة قمعية لكنها معادية للشيوعية. واليوم، يبدى مراقبون قلقهم من فتح الولايات المتحدة باب تحالف الديمقراطيات المزمع أمام دول لا تتورع عن الانتهاك المتواصل والممنهج لمبادىء الديمقراطية وحقوق الإنسان، كإسرائيل وغيرها، طالما لم تعمق علاقاتها بالصين وروسيا.
بالتزامن، تشهد الممارسة الديمقراطية تراجعا مقلقا على الصعيد الكونى. ففى عام 2020، انخفض مؤشر الديمقراطية إلى أدنى مستوياته على الإطلاق. ولا يمكن أن يُعزى هذا الأمر إلى القيود التى فرضتها جائحة كورونا، لأن التراجع كان يحدث بوتيرة لافتة منذ العام 2015. وبينما يركز الخطاب السياسى لبايدن، على حماية القيم الديمقراطية حول العالم، لم يسلم النموذج الديمقراطى الأمريكى نفسه من التشوهات. ففى تقرير حديث، توقع معهد «بروكينغز» للأبحاث، أن تصطدم دعوة بايدن لتأسيس تحالف ديمقراطى ضد الاستبداد، ليس بالتداعيات الأليمة لولاية ترامب اليتيمة فحسب، وإنما أيضا بالتساؤلات القاسية حول مدى سلامة الديمقراطية الأمريكية.
إذا كان ميثاق الأطلسى الأول قد تمخض عن نصف قرن من الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، فمن غير المستبعد أن تؤجج نسخته المستحدثة حربا باردة جديدة بين أمريكا وكل من روسيا والصين. ففى يناير الماضى، أورد تقرير لصحيفة «وول ستريت جورنال»، أن بكين تسعى لتشكيل جبهة مضادة تعرف بـ«تحالف المصالح»، يضم قوى صاعدة منافسة، عبر استدراج بعض حلفاء واشنطن التقليديين فى العالمين المتقدم والنامى إلى الفلك الاقتصادى الصينى، من بوابة الاستثمارات والمشاريع التنموية والتعاون متعدد الأطراف عبر المنظمات الدولية. وتزامنا مع تقاعس واشنطن فى تزويد الدول الفقيرة بلقاحات كورونا، شرعت الصين فى منح ملايين الجرعات للدول الأفريقية، فى محاولة لتقديم نفسها كقوة عالمية معطاءة. وبرغم طيف الخلافات، الذى يخيم على علاقات أوربا بكل من الصين وروسيا، من غير المستبعد أن يفضى اقتراب إنجاز خط «نورد ستريم ــ2»، لنقل 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسى سنويا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق، بالتزامن مع إبرام الاتفاقية الشاملة للاستثمار بين الاتحاد الأوروبى والصين مطلع العام الجارى، إلى كبح جماح خطط بايدن لمحاصرة الصين وروسيا عالميا، عبر تحالف يستمرئ توظيف شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان لبلوغ مآرب استراتيجية، يأتى فى مقدمتها تأبيد الانفراد الأمريكى بقيادة النظام الدولى.
لا ترعوى واشنطن عن توظيف تحالف الديمقراطيات لاحتواء الخصمين الصينى والروسى، سواء من خلال إقحام مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان على الصراع التجارى والتكنولوجى ضدهما توطئة لمحاصرتهما بالعقوبات، بذريعة خرقهما المتعمد لتلك المبادىء تارة، أو الترويج لسردية أفول زمن الديكتاتوريات وبزوغ عصر قيادة الديمقراطيات للعالم تارة أخرى. بدوره، لا يفتأ بايدن، يناضل لإجهاض مساعى بكين وموسكو لإزاحة بلاده من قمة النظام الدولى، عبر حرمانهما من تكوين تحالف استراتيجى واسع ضدها، وتقويض التغلغل الاقتصادى الصينى فى الدول النامية، عبر إمطار الأخيرة بالمساعدات والمشاريع التنموية الغربية، والحيلولة دون ائتلاف حلفاء واشنطن والدول المؤثرة مع روسيا والصين، بما يبطئ وتيرة صعودهما الاستراتيجى، ويدفع بهما إلى نفس مآل الاتحاد السوفييتى السابق. وهو التوجه الذى انتقده الفيلسوف والقانونى النمساوى هانس كوكلر بقوله: «ليست الديمقراطية سوى شعار أمريكى لتأبيد الهيمنة على العالم».