مؤسسات العبادة.. والوحدة النفسية
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 14 يونيو 2023 - 8:35 م
بتوقيت القاهرة
فى مقالين سابقين بينا بعضا من أسباب وباء الوحدة النفسية العولمى. من أحد الأسباب الأخرى التى يشار إليها هى تقلص التفاعل الاجتماعى الإنسانى فى أحياء المدن الحديثة.
فبنية مساحات الترابط فى الأحياء قد تقلصت كثيرا. وقد رأينا فى السنين الأخيرة السكاكين الحكومية وهى تقلص المكتبات العامة والمتنزهات الشعبية للأطفال وكبار السن، وتقلصت أعداد المنتمين إلى عضوية المؤسسات الدينية والنوادى الاجتماعية والأحزاب وجمعيات الأعمال الخيرية وتجمعات النشاطات الثقافية المشتركة والمجالس العائلية والديوانيات فى الأحياء.
وحتى فى المجمعات التجارية تراجعت عادات المصافحة والتحية التعارفية أو السؤال عن أسباب الغياب المفاجئ.
وقد أثبتت دراسات ميدانية كثيرة حقيقة أنه كلما تقلصت المساحات العامة المشتركة، مثل التى أشرنا إليها، كلما زادت وانتشرت مشاعر الوحدة النفسية وأحاسيس الضياع وعبثية الحياة عند الملايين من سكان المدن الحديثة.
وهذا بدوره لا يمكن إلا أن يقود إلى كثير من سوء الفهم والظنون المتبادلة بين مختلف مكونات المجتمع المحلى، مما يسهل للحركات الشعبوية الكارهة للأغراب الآخرين أن تحشد كرنفالات الكراهية المتبادلة والصراعات المختلفة المبتذلة من أجل مكاسبها السياسية الآنية الانتهازية.
ومع توافر وسائل التواصل الاجتماعى الجماهيرى بشكل لم يعرفه العالم قط من قبل تنعكس كل موبقات المشكلات التى ذكرنا كسيل تأجيجى تجييشى منهم وكازدياد فى عدد مجانين حملة السكاكين والمسدسات الذين لا يتوانون عن قتل الأبرياء دون شعور بالذنب ودون محاسبة من صحوة الضمير.
إذ كيف تتحرك مشاعر الذنب وصحوات الضمير إذا كانت الوحدة النفسية تتطور شيئا فشيئا لتسبب كل أنواع الأمراض العقلية والنفسية والروحية؟
ألم يصرح بحار ملحمة الشاعر كولردج وهو يواجه أفق البحار الممتدة وحيدا، وحيدا، وحيدا بأن روحه فى ألم ووجع؟ ألم تظهر الدراسات أن ضحايا الوحدة معرضون بمقدار عشرة أضعاف للهبوط النفسى والقلق مقارنة بالناجين والناجيات من وباء الوحدة العصرى؟ بل ألا تقود مشاعر الوحدة الشديدة إلى انتحار البعض؟
يجب أن نكون صريحين من أن أكثر من يساهم إلى وصول المجتمعات المحلية إلى أن يسكنها ضحايا الوحدة النفسية هى سياسات البخل والتقتير التى تمارسها البلديات والحكومات بشأن توفير الخدمات المحلية بدعوى ضرورة الاقتصاد فى المصروفات وموازنة الميزانيات. آن الأوان أن يناقش هذا الموضوع بلا غمغمة بعد أن وصل الأمر إلى مستويات الوباء.
من هنا يشعر الإنسان بالأهمية الاجتماعية والنفسية والروحية التى تقف وراء وجود المساجد لعموم المسلمين والمسلمات والمآتم الحسينية لأتباع المذهب الشيعى. إذ مهما تعمقت ممارسات التباعد الاجتماعى فى المجتمعات المحلية فى هذا العالم تظل مثل هذه المؤسسات عند المسلمين والمسلمات، ومثلها الكنيسة عند الأخوات والإخوة المسيحيين، ملاذا بالغ الأهمية للتخفيف من وباء الوحدة النفسية.
فالنشاطات التعبدية والاجتماعية المشتركة، واللقاءات المتعددة فى اليوم بالنسبة للمسجد، لا يمكن إلا أن تقود إلى شعور الأفراد إلى نوع من الطمأنينة النفسية عندما يلتفون يوميا بمن يتفاعل معهم، ويهتم بأحوالهم، ويسأل عن أسباب غيابهم، ويزورهم فى مرضهم، ويواسيهم أثناء محنهم ووفاة أحد أقربائهم.
لقد أدركت الديانات هذا الأمر منذ قديم الأزمنة وواجهته بوجود مؤسسات العبادة المشتركة، لكأن الحكمة والرأفة الربانية كانت تتهيأ لمواجهة هذا الانزلاق العولمى المؤلم الحالى نحو الوحدة النفسية فى المجتمعات المحلية.