هونج كونج.. رايح جاى
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 14 يوليه 2020 - 9:05 م
بتوقيت القاهرة
نزلنا فى مطار هونج كونج، أنا وزوجتى وبالأصح عروستى، لنجد فى استقبالنا موظفا من إدارة مراسم حكومة المقاطعة. اصطحبنا الشاب، أظن أنه كان فى عمر الشباب. نحن أيضا كنا فى هذا العمر. كنت تجاوزت العشرين بعامين وكانت زوجتى تجاوزت الثامنة عشرة بشهور قليلة. أعترف أننى ما زلت أجد صعوبة فى إطلاق صفة الزوجة على رفيقتى فى هذه الرحلة. كنا بالفعل صغارا. مرة أخرى تصدمنى هذه الحقيقة وأنا أقدم زوجتى للشاب المكلف باستقبالنا. رأيت لوهلة طويلة وجهها وقد اكتسى صفارا ومن عينيها اختفى بريق معتاد وغابت فرحة لم تكن تنقطع. أظن أن الخوف انتابنى للحظة، هذه الطفلة هى الآن، وللمرة الأولى، مسئولية مطلقة من مسئوليات أتحملها ومعظمها جديد. لعلها انتبهت فراحت تطمئننى إلى أن ما أراه على وجهها ليس أكثر مما يمكن أن أراه على وجه مسافر فى رحلة استغرقت يوما كاملا. لم تسنح الفرصة لننام خلال الليلة التى قضيناها فى بانجكوك للسياحة فيها ولتقطيع مدة الطيران فى رحلتنا من الهند إلى الصين. هناك فى الفندق المتواضع هاجمتنا على موجات جحافل الناموس الشهير فى جنوب آسيا وتركتنا مع الشروق جسدين مشوهين ومرهقين وما تزال أمامهما رحلة ست ساعات إلى هونج كونج. غاب عنا مندوب المراسم دقائق قليلة عاد بعدها ليبلغنا بأن حقائبنا، وهى ثمانى حقائب جلدية كبيرة واثنتان معدنيتان أصغر، انتقلت بالفعل إلى الفندق الذى حجزنا لنقضى فيه ثلاثة أيام وأننا يمكن أن نتحرك لنلحق بها وقتما نشعر بالرغبة والقدرة.
***
تصورنا أننا بدخولنا غرفتنا فى الفندق يمكن أن تبدأ فترة للراحة. والراحة ضرورية لأن مهمتنا فى هذه المدينة، كما تعلن سمعتها، صعبة ومرهقة وقد ننجح فى أن نجعلها ممتعة. مهمتنا فى أساسها التبضع. زملاؤنا فى بكين وفى نيودلهى أغرقونا بقوائم مشتريات يجب علينا اقتناؤها إذا كنا ننوى قضاء الشتاء فى جليد بكين وزمهرير عواصفها. وصلتنى على عنوانى بالهند رسائل عديدة تعلن بكل الوضوح أن لا بضائع من أى نوع ولأى غرض مطروحة للبيع فى محلات بكين. كل شىء قد نحتاجه، أو نتخيل أننا نحتاجه، هو شىء غير موجود فى الصين. لم أعرف وأنا أتلقى هذه الرسائل وأقرأ معها القوائم أننى، وزوجتى، لن نعيش حياة كريمة إلا إذا وفرنا لبيتنا جل ما ورد فى القوائم. اكتشفنا، هى وأنا، أن يوما سيأتى نسأل فيه أنفسنا ماذا احتاج لأعيش وماذا احتاج لأعيش حياة كريمة، وأننا لن نجيب إجابة مفيدة لأننا بكل بساطة لم نعش سنوات بعدد يكفى لأن نتعرف على حاجاتنا واحتياجاتنا. كنا بالفعل صغارا بالعمر والتجربة.
قطعت الصمت دقة خفيفة على باب الغرفة. فتحت لرجل متقدم فى العمر يرحب بى ويقدم نفسه، هو الترزى الذى يفصل أطقم البذلات والقمصان والبلاطى لأعضاء فى سفارات عديدة فى بكين ومانيلا. وصلته معلومة عن وصولنا وتوصية خاصة من زبائن معروفين لنا للتعامل معنا بشكل مريح. أكد بسرعة أنه لا يحتاج منى فى لحظتها أكثر من ثلاث دقائق. وبالفعل أخذ المقاسات وعرض الأصواف الإنجليزية التى فى حوزته، بعضها للشتاء والبعض الآخر لصيف شديد الحرارة والرطوبة. طلب أن نمر عليه فى دكانته على يمين مدخل الفندق بعد أربع ساعات لعمل «بروفة». أكد أننا عند عودتنا من العشاء خارج الفندق سنجد الأطقم والقمصان فى أماكنها بخزائن غرفتنا. أوفى بعهده وأكثر. وجدنا بالغرفة حقيبة فارغة هدية منه وتتسع لكل ما صنعته يداه من أجلنا. وبالفعل كانت سعادتنا بالغة كأطفال وسط طوفان من الهدايا. أعترف أن وزارتى كانت كعادتها كريمة مع المنقولين فى ظروف استثنائية، كانت تمنحنا ما يعادل مرتب ثلاثة شهور لتغطية نفقات نقل الأمتعة الإضافية، من هذه المنحة سددنا فاتورة نقل الحقائب العشر وتكلفة أطقم الملابس الجديدة والإقامة بهونج كونج.
***
اخترت مكانا فى بهو الفندق أراقب منه حركة المصاعد فى انتظار نزول زوجتى التى استأذنت فى نصف ساعة ترتب فيها بعض أشيائها وتلحق بى. لعلها من المرات القليلة التى استطعت أن انفرد فيها بنفسى منذ بدأنا قبل ثلاثة شهور رحلات شهر العسل وهذه الرحلة، رحلة هونج كونج. طلبت من النادلة أن تأمر لى بمشروبى المفضل لتلك الساعة من المساء، عادة من عادات اخترت ممارستها خلال سنوات الدراسة الأخيرة والتى كانت أيضا سنوات عمل بالمكتبة الأمريكية الكائنة بجاردن سيتى. أمسكت بالمشروب وعلى الفور وجدت نفسى أعود بمحرك الذكريات إلى نقطة فى البداية. رأيت مشهدا فى العاصمة الهندية المحببة إلى قلبى وكأننى فى صالة استقبال أعرفها أجلس فى مقابل الاستاذ عمر وعلى يمينه جلست منيرة هانم. سمعته يسألنى عن مرتبى الشهرى الذى أتقاضاه فى نيو دلهى. أجبته بسرعة، وفى إجابتى بعض الفخر وكثير من الرضا، سبعون جنيها إسترلينيا. أما الرضا فلأنه لم يسأل عن مرتبى الشهرى فى القاهرة، وكان فى ذلك الحين يدور حول مبلغ ثلاثة عشر جنيها مصريا وثلاثمائة وخمسين مليما. أما الدافع الآخر للرضا فكان لأنه لم يسأل عن أجرة شقتى التى أسكن فيها فى نيو دلهى، وهو ما يعادل أربعين جنيها إسترلينيا. فاجأنى عمر به عندما استدار نصف استدارة ليواجه زوجته، الست أم شافع، وبادرها بما هو بين السؤال والاستفسار والاستنكار قائلا: «سبعون إسترلينيا؟! يا منيرة، نحن ننفق هذا المبلغ على حفل غذاء دبلوماسى نقيمه فى الأسبوع مرتين أو ثلاثا». جاء رد الست منيرة سريعا وحاسما. قالت: «منذ متى يا عمر تدلى بدلوك فى مسائل مالية. هذا من اختصاصنا أنا وابنتك. أرجو أن تطمئن فالمرتب كاف ليعيش عليه شابان صغيران فى عمر جميل ورفيف. هل نسيت يا سعادة السفير كم كان دخلك فى حلب عندما تقدمت لخطبتى». بهذا الرد التاريخى انتهى اللقاء لصالحى وخرجت مطمئن البال، ودعتنى حتى الباب الست منيرة وعلى فمها ابتسامة الواثق المنتصر.
انفتح باب أحد المصاعد وخرج منه أجانب وصينيون عديدون وفتاة ممشوقة القوام، مشت نحوى بخطوات ثابتة وقسمات وجهها تكشف هناء وسرورا. نعم، لم أخطئ فى الاختيار ولا قصرت فى القرار. أوقفت محرك الذكريات ونهضت لاستقبالها.
***
وصلنا بكين بعد أربعة أيام قضينا ليلة منها فى مدينة كانتون، أول مدينة كبيرة فى الصين تَطَؤها قدماى. فاتتنى الإشارة إلى أن فريقا تابعا لوزارة الخارجية استقبلنا على محطة على طريق السكك الحديدية التى تربط ــ وتفصل ــ بين إقليم هونج كونج وأراضى الوطن. يومها نزلنا من قطار فاخر وأنيق تابع لحكومة الإقليم ومشينا على الأقدام أمتارا عشرة أو أكثر حيث كان فريق الخارجية فى استقبالنا. ودعنا وشكرنا رسول هونج كونج وسلمنا أنفسنا لفريق بكين وبدوره سلمنا لمسئول القطار الذى سوف ينقلنا إلى داخل الصين وتحديدا إلى كانتون لؤلؤة الجنوب. كان الاستقبال المعتاد لكل الوافدين والزوار الأجانب دافئا ولكن بحماسة متدفقة. مكبرات الصوت فى المحطة تذيع أناشيد حماسية وفريق الاستقبال الرسمى يصر على أن يحكى لرئيس المحطة والشباب المرافقين له حكايات عن بطولات مصر فى نضالها ضد الإمبريالية. كسرت مصر القيود لتعترف بالصين وتقيم علاقات معها وها هو شاب من طليعة المناضلين فضل أن يحتفل فى الصين بزواجه فقرر أن ينضم لزملائه الذين سبقوه وأقاموا سفارة لمصر فى بكين. لا أحد كان يراجع المترجم الذى نقل خطبة الترحيب الحماسية، المؤكد أن ورقة معلومات حملتها إليه من بكين أجهزة البرق قرأها واستوعب جيدا مضمونها وأضاف إليها من عنده ما يخصنا كزوجين حديثى العهد بالزواج. أظن أننى ارتكبت وأنا أودعه أول أخطائى كدبلوماسى فى الصين. سألت سؤالا مفاجئا لمسئول فى موضوع غير متوقع. بكل البراءة فى النية أبديت ملاحظة مفادها أن لهجة الخطب الحماسية، الأناشيد الوطنية، تختلف عن اللهجة التى تحدثتم بها أنت والمترجم ورئيس المحطة. صعدنا إلى القطار ووصلنا معه إلى محطة قطارات كانتون ولم تتوقف الأناشيد الوطنية بلهجة أو لعلها وقعت على أذنى وقع لغة غير تلك التى يتحدث بها أهل الجنوب.
***
غير صحيح ما كان يشاع عن أنه لا وجه شبه بين الداخل الصينى وإقليم هونج كونج. أوجه الشبه ليست قليلة. الصوت العالى هواية اشترك فى ممارستها الصينيون حيثما وجدوا. أما حبهم للألوان الصاخبة فإدمان لا يتخلون عنه. قل ما تشاء عن القيم ولكن يجب أن تعترف أن لكبار السن نفحة قدسية لا تخطئها عين زائر من الخارج. قل أيضا ما تشاء عن التمسك بسلوكيات حضارة مختلفة جذريا عن حضارة الغرب. ادخل أى مطعم فى هونج كونج لن تقابل رجلا أو امرأة من أهل المدينة يستخدم الشوكة والسكين. كلهم، رجال ونساء وأطفال، يستخدمون العصى فى تناول الطعام حتى وإن كانت لغة التخاطب على المائدة الإنجليزية.
أوجه الاختلاف كانت أيضا كثيرة عندما نزلنا أرض الصين لأول مرة. معظم أهل هونج كونج كانوا يعيشون فى رفاهة ورخاء، يرتدون ملابس غربية الذوق ويتحدثون الإنجليزية بطلاقة وهى لغة الحكم الرسمية. تشعر وأنت فى هونج كونج بالتنوع على عكس ما كنا نراه فى بكين أو شنغهاى. ما إن تطأ أرض الصين حتى تفقد القدرة على التمييز بين الأشخاص فى الطريق العام. أتحدث عن فترة كان الصينيون رجالا ونساء يرتدون بذلة ماو، نسبة إلى الرئيس ماوتسى تونج، ويقصون الشعر حتى يلامس الشعر من الخلف ياقة البذلة. أقارن ما رأينا بما أصبحت تمتلكه اليوم حكومة الصين وأجهزتها الأمنية والبحثية من قدرة تسمح لها بالتعرف على أى مواطن يقف بين مليون. لاحظنا كذلك ونحن نجوب شوارع كانتون أننا لم نقابل فى طريقنا شابا يحتضن فتاة، أو رجلا يمشى ممسكا بيد امرأة. كان الأمر مختلفا فى هونج كونج، ولكنه ليس الاختلاف بين شارع فى بكين أو كانتون وشارع فى نيويورك أو باريس. حتى فى هونج كونج هناك طقوس صينية يحترمها أهل القطاع.
***
كان هناك فى جناح السيارات غرفة تبيت فيها السيارة الرولز رويس الحمراء الخاصة بالملك فاروق التى استأذنت وزارة الخارجية لتحصل عليها مع مفروشات ولوحات من مقتنيات قصر عابدين. اختيرت الغرفة الملاصقة لتكون مستودعا لواردات السفارة من هونج كونج. أطلقنا عليها هونج كونج الصغيرة. هناك كنت تجد جميع أنواع المعلبات وبخاصة علب حليب الأطفال المجفف. جانب آخر خصصناه للمشروبات الروحية وجانب ثالث للمستحضرات الطبية غير القابلة للتلف كالأسبيرين والفيتامينات وجانب رابع لقطع غيار حيوية كالبطاريات والموصلات الكهربية. كنا نسحب ونحاسب فى نهاية الشهر على جملة ما سحبنا. وعندما كان يعجز دكان السفارة الصغير عن الوفاء بمطالبنا كنا نلجأ عند الضرورة الشديدة لمستودع هونج كونج بالسفارة البريطانية، فهو الأكبر والمزود لجميع البعثات الدبلوماسية المعتمدة وعددها سبع وعشرون ــ على ما أذكر ــ وأغلبها تمثل دولا فى شرق أوروبا. اعترف أننا خالفنا التعليمات. كنا نتعاون مع سفارة المملكة المتحدة بالرغم من غياب علاقات دبلوماسية بين البلدين.
أذكر أننا كنا نلتقى فى المناسبات فى النادى الدبلوماسى الكائن بداخل المنطقة التى كانت تخضع لقواعد تحريم دخولها على الصينيين والكلاب فى زمن الهيمنة الغربية وسيادة الرجل الأبيض. خلال المرات القليلة التى سمحت لنفسى وزوجتى بقضاء أمسية فى هذا النادى لاحظت أن الحكومة الصينية كانت تفرض على الدبلوماسيين الأجانب الالتزام بأداء رقصة غربية معينة هى الفوكس تروت باعتبارها الأكثر حشمة والأقل التصاقا بين الراقصين. أما التويست والروك وغيرهما من الرقصات الذائعة فى تلك الأيام فكانت ممنوعة، وأذكر أن سفارتنا تلقت فى عهدى تنبيها باحتمال طرد أحد الموظفين العاملين بالسفارة من الصين لو تجاسر وأدى هذه الرقصات مرة أخرى مع موظفات أجانب أو صينيات.
***
كان يوم عيد يوم وصول شحنة هونج كونج. كانت إدارة الشحن بالخارجية تبلغنا بتحرك سيارة شحن من ميناء تينسين الأقرب إلى بكين أو من ميناء شنغهاى الأبعد، حاملا «ليفت فان» بعنوان سفارتنا. كأطفال فى انتظار هدايا بابا نويل أو العيد كنا نجتمع عند مدخل مستودع هونج كونج فى الساحة الخلفية للسفارة ومع كل عضو منا قائمة بما طلب من وكيلنا بهونج كونج. أذكر فرحتى برسالة أسبوعية تحمل اسمى وتحتوى على أهم المجلات الصادرة فى الغرب والدراسات الحديثة عن الصين وآسيا بشكل عام. أذكر أيضا ابتهاج نزار قبانى بوصول شحنة خراطيش سجاير من نوع لا يرضى بغيره بديلا. يبقى بالمخزن ما نطلبه جماعة من باب الاحتياط لتفادى أزمات طارئة تفتعلها وزارة الخارجية الصينية التى كثيرا ما كانت تغضب على الدبلوماسيين الأجانب فتعاقبنا بقطع إمدادات هونج كونج الدورية. فى هذه الحالة لم يخجل أى منا من أن يبدى استعداده للسفر إلى هونج كونج لاستعجال شحنة تأخرت أو لمجرد الخروج من الصين، لا أذكر أحدا عرض السفر إلى موسكو وهناك وكيل يمكن أن يعوض عن غياب هونج كونج. لا مكان كان له سحر هونج كونج، حتى سنغافورة، وهذه ربما بسبب سمعة وقارها واتزان أهلها وانضباطهم.
***
غادرنا الصين من نفس الطريق التى دخلنا بها. دخلنا اثنين وغادرناها ثلاثة. قضينا فى هونج كونج ليلتين على ما أذكر. بعد تسعة شهور من حمل معقد وخمسة شهور من علاقة منهكة بين طفل لا يهدأ وأم هالكة، أرادت أم سامر أن تحظى بإجازة لمدة يومين تجوب خلالها شوارع هونج كونج وتجرب فى مطاعمها ما كان محرما علينا فى بكين من أطباق محلية ذائعة الصيت. أظن أن إحدى حقائبنا خصصناها لكتب الطبخ، وبخاصة الكتب المتخصصة فى المطابخ الصينية بخاصة والآسيوية عامة. على كل حال لم تتمكن من تحقيق أهدافها كاملة إذ رفض الرضيع سامر التعاون مع جليسة صينية من هونج كونج إلى حد أنها ذات يوم تركناها مع الرضيع راحت تبحث عنا فى أنحاء المدينة مستعينة بالشرطة. رضيع لا يهدأ. هو نفسه كان فيما بعد طفلا لا يهدأ ثم صبيا لا يهدأ ومراهقا لا يهدأ وطبيبا لا يستقر. لم تنعم المسكينة أمه بسببه بالفرصة الأولى لها فى هونج كونج وبسببه أيضا لم تنعم بالفرصة الثانية.
***
بعد أقل من خمسة عشر عاما من آخر رحلة لى فى هونج كونج وفى آخر ليلة لنا فى طوكيو اجتمعنا كعادتنا قبل العشاء فى جناح الأستاذ بفندق إمبريال وسط المدينة. كانت بشكل ما جلسة توديع وتقويم. وصلت رحلتنا إلى محطة النهاية. كان واضحا منذ اللحظة الأولى أننا راضون كل الرضا بما حققته بعثة مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام فى رحلتها التبشيرية بالقارة الآسيوية. غدا نكون فى هونج كونج ولكن بدون مهمة محددة. لن نحكى فى السياسة فى مدينة مؤجل مصيرها. أهلها مدركون هذه الحقيقة وفى بكين لم يخفوا عنا أنهم يستعدون لجميع الاحتمالات، ومنها أن تتردد بريطانيا فلا تنسحب. دعونا نمر على هونج كونج مر الكرام. نقضى فيها كما يقضى عامة السياح أوقاتا ظريفة وممتعة وبعيدة كل البعد عن السياسة.
لا أخفيكم أننى كنت سعيدا بهذا التوافق على قضاء إجازة فى هونج كونج، أنا الذى أتيحت له فرصتان قبل ما يقارب خمسة عشر عاما ولم يستفد بهما. الفرصة حانت من جديد. وعد من الجميع للجميع، دعونا نقضِ وقتا حرا، كل منا يذهب لشئون تخصه ولو قضى الإجازة نائما. دعونا نعُدْ إلى عائلاتنا سعداء غير منهكين، فالرحلة كانت بالفعل طويلة ومكلفة ولكن بكل المعايير مثمرة. حققت إنجازا للصحافة العربية. قدمت نموذجا مشرفا وعادت بسجل يستدعى الفخر ليس فقط لمركز الدراسات أو للمؤسسة التى مولت الرحلة أو للدولة التى خرجت منها هكذا بعثة صحفية وبحثية ولكن أيضا لمهنة الصحافة.
***
فى اليوم التالى كنا فى هونج كونج ونفذنا ما اتفقنا عليه فى طوكيو فى جلسة ما قبل العشاء. كل منا اعتبر نفسه فى جولة حرة بالمدينة الرائعة التى عاشت لتؤكد أن الحضارة ليست للون واحد من ألوان البشرة، إنما هى من صنع البشر لخدمة كل البشر. التقينا فى طائرة العودة. تبادلنا الحكايات الظريفة. وكشف لى محمد سيد أحمد عن هديته التى اشتراها لنفسه، وقال هيكل بصوت خافت رأينا المستقبل وكيف ينحتونه نحتا. كانت الزيارة الأخيرة لمدينة أحبها ولم أشبع منها.
أحد شوراع هونج كونج في السبعينيات
صينيون في عهد ماو
المسافة بين محطتي الصين وهونج كونج تقطع بالأقدام