ارتبطت قلعة صلاح الدين على مدى عمرها الطويل، الذى يربو على 800 عام، بالتحصينات العسكرية، وبأدوارها الحربية فى الدفاع عن مصر المحروسة، كما كانت دارا للحكم، وإقامة الملوك والسلاطين، ولم يخلُ تاريخها من المؤامرات، ودسائس الصراع على السلطة، واشتهرت بأكبر حيلة تخلص بها محمد على من منافسيه المماليك فيما عرف بمذبحة القلعة، قبل أن يكون المكان ذاته حضنا لأنات المعتقلين، وعذابات «العشاق» الذين «تجمعوا» فى سجن القلعة، على حد قول الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد.
هذا الصورة الذهنية تجمعت فى مخيلتى وأنا أصعد إلى محكى القلعة لحضور حفل افتتاح مهرجان الموسيقى والغناء السادس والعشرين، بدعوة كريمة من الدكتورة إيناس عبدالدايم رئيس دار الأوبرا المصرية، ورئيس المهرجان الأعرق عربيا فى تقديم الفنون فى الهواء الطلق، وبين جدران هذا الحصن التاريخى الذى بات رمزا لعظمة الحضارة العربية والإسلامية، وإسهامها الإبداعى فى مسيرة الحضارة الإنسانية.
ورغم حرارة الطقس، ونسبة الرطوبة المرتفعة التى رافقت افتتاح المهرجان، تجمع أكثر من خمسة آلاف متفرج تفاعلوا مع فقرات الحفل الذى أحيته حنجرة مصرية خالصة جمعت بين التراث الغنائى العربى، والغناء والموسيقى الغربية، بمهارة تجعل من الفنانة نسمة محجوب أملا جديدا فى الرقى بذوق المتلقى المصرى الذى دمره بعض الجهلة من تجار الخردة وأصحاب المسابك.
نسمة بدأت بأداء عدد من أجمل أغنيات السيدة فيروز، بنكهتها الخاصة فأسمعتنا «سهر الليالى، والبنت الشلبية، وآخر أيام الصيفية، وغيرها»، قبل أن تقدم أغنياتها الخاصة، ومجموعة من الأغنيات الغربية القديمة والمعاصرة، وهى تتنقل بسهولة ويسر من لون إلى آخر، وسط تشجيع لافت، ليس من الجمهور فحسب، بل من الدكتورة والفنانة إيناس عبدالدايم التى كانت تجلس إلى جوار وزير الثقافة، الكاتب الصحفى حلمى النمنم، ومحافظ القاهرة، عاطف عبدالحميد.
أسوار القلعة التى تزينت بأنوار خافتة أضفت سحرا على المكان الذى يقام فيه المهرجان على مدى أسبوعين كاملين، يستضيف خلالهما كبار المطربين وفرقهم الموسيقية، ويعد فرصة أمام الاجيال المختلفة للاستمتاع بالفنون التى تسمو بالمشاعر وترقى بالوجدان، بما يسهم فى محاصرة القبح الذى تسلل إلى حياتنا، وكان بابا لدخول التطرف، وقوى الظلام التى تسعى بائسة لهدم أركان مجتمع عرف عنه البناء لا الهدم، والتمسك بجذوة الأمل فى أصعب الظروف.
على مدى ساعتين من الغناء الراقى، والسلوك المتحضر لجمهور متعطش لصدق الكلمة، وبراعة الأداء لجيل جديد من الفنانين المصريين الذى وصفتهم نجمة الحفل تحببا بفريق «الاشقياء»، مضت السهرة فى حضن محكى القلعة الذى تحول على مدى ربع قرن إلى ملاذ لعشاق الفن الأصيل، وساحة للاستمتاع بكل ما هو جميل من نتاج عقول مبدعة خصها الله بمواهب كالجواهر التى تستحق الحفاوة والتشجيع.
تملك مصر قدرات جبارة، إن أحسن استخدامها، فى مواجهة قوى الظلام والتطرف، وبإمكانها أن تخرج منتصرة فى معركتها ضد الإرهاب الذى تغذيه عقول منغلقة، وأصحاب أيديولوجيات دموية، تستدعى من التاريخ أسوا محطاته، لفرض رؤية متخلفة، ونسخة مزيفة من الدين الإسلامى الحنيف، الذى ازدهرت تحت رايته كل الفنون الإبداعية، وساهم أبناؤه فى تطور الركب العالمى بعلوم وفنون لا يمكن إنكار دورها فى صنع الحضارة الإنسانية.
مهرجان قلعة صلاح الدين للموسيقى والغناء، يؤكد أن الفن يعنى الحياة، وهو امتداد لرسالة دار الأوبرا المصرية التنويرية، وفرصة لنشر البهجة، ومحو جزء من الأحزان التى تحاصرنا، من وقت لآخر، كما هو باب مشرع على الرقى بالذوق العام، واستعادة لقوة مصر الناعمة التى جارت عليها الأيام، ومنصة لتجميع «العشاق» فى المحكى، لا فى السجون.