معضلة الخيار العسكرى فى النيجر
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 14 أغسطس 2023 - 7:15 م
بتوقيت القاهرة
عقب تأسيسها عام 1975، كجماعة اقتصادية تتوسل التكامل بين دول غرب أفريقيا، قرر قادة مجموعة «إيكواس»، التى تضم 15 دولة، من بينها النيجر، إنشاء هياكل ومواثيق أمنية عدة. واستنادا على «بروتوكول عدم الاعتداء»، «ميثاق دفاع الإيكواس»، عام 1981، الذى اعتمد «مبدأ الأمن الجماعى»، وانبثق عنه «بروتوكول الديمقراطية والحكم الجيد» فى ديسمبر 2001، تم شرعنة تحركات القوة الأمنية الإقليمية «إيكوموج». وقد أنيط بتلك الآليات، محاربة الجماعات المتطرفة، وضمان سلامة الممارسة الديمقراطية، واستعادة الشرعية الدستورية، فى الدول الأعضاء. ومنذ العام 1990، بدأت المجموعة تفعيل الآلية الكفيلة بدعم الحكم المدنى فى حالات شتى، أبرزها: ليبيريا عام 1990، مرورا بسيراليون عام 1998، ثم فى جامبيا 2017، وغينيا بيساو، بين عامى 2012 و2020.
يأتى إصرار «إيكواس»، اليوم، على تقويض انقلاب النيجر، انطلاقا من كون الأخيرة تشكل آخر معاقل الحكم المدنى بمنطقة الساحل، ومحور الاستقرار فى غرب أفريقيا. كما تخشى الدول، التى تحكمها أنظمة مدنية مثل نيجيريا، من انتقال عدوى الانقلابات العسكرية إليها. وتوخيا منها لإظهار مزيد من الحزم إزاء موجة الانقلابات العسكرية، التى تجتاح غرب أفريقيا، فرض زعماء «إيكواس»، المجتمعين بقمة استثنائية فى أبوجا، يوم 30 يوليو الفائت، بعد أربعة أيام من انقلاب أطاح الرئيس المنتخب، محمد بازوم، عقوبات متنوعة وموجعة على النيجر. كما أمهلوا قادة الانقلاب سبعة أيام، لإعادة بازوم إلى منصبه، تحت طائلة استخدام القوة. ومع انتهاء المهلة، اجتمع رؤساء أركان جيوش دول «إيكواس» فى أبوجا، وأعلنوا الخطوط العريضة لعملية عسكرية محتملة ضد انقلابيى النيجر. ورغم إعلانها، إبان اجتماعها الطارئ فى العاشر من الشهر الحالى، نشر قوة احتياطية لاستعادة النظام الدستورى فى النيجر، لم تخف المجموعة اعتصامها بالنهج الدبلوماسى.
ثمة تحديات سياسية، اقتصادية ولوجيستية، تعترض أى تدخل عسكرى، آمن وناجز، فى النيجر. بما يتيح عودة الشرعية، ويحول دون وقوع أضرار مدنية مفجعة، أو اقتراف انتهاكات لحقوق الإنسان، أو تدفق موجات اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين صوب دول الجوار والقارة العجوز. كما يمنع اندلاع حرب إقليمية قد تتدحرج إلى مواجهات عالمية، ويسد الطريق أمام تمدد نفوذ موسكو وبكين فى غرب القارة السمراء. ويفوت الفرصة على التنظيمات الإرهابية، المصرة على تعزيز تموضعها فى شمال غرب البلاد وجنوبها الشرقى، كما المثلث الحدودى ومحيط بحيرة تشاد.
بينما يتم اتخاذ القرارات داخل «إيكواس» بتوافق الآراء بين أعضائها، لا تلوح فى الأفق مؤشرات على توافق بشأن التدخل العسكرى فى النيجر. فبموازاة الانقسام التقليدى بين المجموعة الأنجلوفونية بقيادة نيجيريا، والجوقة الفرانكفونية بقيادة ساحل العاج؛ ترفض الدول الأربع، التى شهدت انقلابات منذ عام 2020، مثل مالى، بوركينا فاسو، غينيا كوناكرى، وغينيا بيساو، تدخلا عسكريا، يعتبرونه إعلان حرب عليهم.
كما أدانوا عقوبات «إيكواس»، بوصفها غير شرعية، وغير إنسانية؛ وهددوا بالانسحاب من المجموعة، واتخاذ تدابير، فى إطار الدفاع المشروع، لدعم الجيش والشعب النيجريين. ويخشى قادة الانقلاب بالدول الأربع، التى تتشارك جهود قتال تنظيمات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة»، أن يؤدى نجاح «إيكواس» فى إفشال انقلاب النيجر، إلى تكرار التجربة فى بلدانهم. ومن ثم، يتطلعون إلى دعم انقلابيى النيجر، وحثهم على طى صفحة الشراكة مع فرنسا، والانخراط فى اتفاقية أمنية لمكافحة الإرهاب، برعاية روسية. أما الجزائر، التى تخشى بروز «قوس أزمات» فـى جوارهـا الجغرافى المباشـر؛ فقد أكدت تمسكها بعودة النظام الدستورى فى النيجر. لكن حسابات اقتصادية وأمنية دفعتها لرفض أى تدخل عسكرى فى جارتها الجنوبية المضطربة، التى تتشارك معها حدودا بطول ألف كلم.
تواجه «إيكواس» معضلة لجهة احتواء التراجع الديمقراطى المتنامى بمنطقة غرب إفريقيا، إثر تعاقب الانقلابات هناك خلال العامين الماضيين. وبينما تصبو نيجيريا، التى تتولى رئاسة المجموعة، إلى استعادة زعامتها لمنطقة الساحل، عبر إفشال انقلاب النيجر؛ تبدو المسألة بعيدة المنال. فمن جهته، يرفض برلمان نيجيريا، التى تعد ركيزة تدخل «إيكواس» العسكرى فى النيجر، جراء قدراتها العسكرية وجوارها الجغرافى الطويل معها، هكذا مسعى. وذلك تجنبا لإثارة الاضطرابات على حدودها الممتدة معها بطول 1600 كيلومترا، ويستعصى على قوات أمن البلدين تأمينها. كذلك، سيتعذر على الجيش النيجيرى المنهمك فى محاربة حركة «بوكو حرام» وجماعات مسلحة أخرى تنشط فى 30 من أصل 36 ولاية نيجيرية، قيادة تحرك عسكرى متزامن فى جبهة خارجية.
رغم دعمهما تحركات«إيكواس»، التصعيدية حيال النيجر، لا تفضل واشنطن وباريس الانخراط المباشر بأى تدخل عسكرى هناك؛ مؤثرتين مبدأ «القيادة من الخلف». فمن جانبها، وبعدما هددت باستخدام القوة ضد الانقلابيين، رهنت فرنسا أى تدخل عسكرى فى النيجر، بالاعتداء على رعاياها أو مصالحها فى هذا البلد الأفريقى. ورغم تمركز 1100 جندى أمريكى فى النيجر، استبعد مسئولون أمريكيون ضلوعهم فى أى عمل عسكرى بهذا البلد. فيما أكد وزير الخارجية، بلينكن، أن الحل فى النيجر دبلوماسى صرف. وبعدما أكد السفير الأمريكى السابق لدى السودان، مايكل كارنى، أن استخدام القوة العسكرية فى النيجر، سيكون عملية معقدة من الناحية اللوجيستية؛ نصح بتصعيد الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية على نيامى. وتخشى واشنطن أن يفضى تدخلها عسكريا فى النيجر إلى تنامى كراهية البلد الأفريقى لها، ومن ثم إفقادها حضورها الجيوسياسى هناك. كما تتخوف إدارة بايدن من أن يتمخض عدم الاستقرار فى النيجرعن تمكين روسيا من تعزيز نفوذها فى منطقة الساحل، التى شهدت سلسلة انقلابات عسكرية، أتت بحكومات تدير أظهرها للغرب، وتولى وجوهها شطر موسكو. ومع حلول نهاية مهلة «إيكواس»، توجه أحد قادة انقلاب النيجر، إلى مالى، طلبا للمساعدة من مجموعة «فاغنر» الروسية. وعقب انتهاء المهلة، طالبت إيطاليا بتمديدها، مشددة على أن الدبلوماسية، تبقى السبيل الأمثل لتسوية الأزمة.
نظرا لثرواتها من اليورانيوم، النفط والذهب؛ تتمتع النيجر بأهمية استراتيجية لدى الولايات المتحدة، الصين، أوروبا وروسيا. كما تعد شريكا أمنيا رئيسا لبعض الدول الغربية مثل فرنسا وأمريكا، اللتين تستخدمانها كقاعدة لجهودهما الرامية لاحتواء التنظيمات الجهادية بغرب ووسط أفريقيا. ويتخوف العالم من أن يسفر التدخل العسكرى بالنيجر، عن زيادة هشاشتها، بما يجعلها بيئة حاضنة لتنظيمات إرهابية تعيث فسادا فى أطرافها، على شاكلة «بوكوحرام»، «داعش»، «القاعدة»، وجماعة «نصرة الإسلام والمسلمين». بدورها، استبعدت موسكو، أن يسهم أى تدخل عسكرى خارجى فى النيجر من لدن الغرب، أو «إيكواس»، فى تحقيق سلام دائم بالبلد الأفريقى الهش، أو ضمان استقرار الوضع فى منطقة الساحل ككل. فيما حذر وزير الجيوش الفرنسية، من تقويض انقلاب النيجر جهود مكافحة الإرهاب بمنطقة الساحل القلقة. حيث تتطلع التنظيمات الراديكالية، منذ أعوام، لتكريس انتشارها فى دولها الفاشلة.
يختلف أى تدخل عسكرى من قبل «إيكواس» فى النيجر، عن سابقاتها. فالنيجر من أكبر الدول الأفريقية مساحة، ويمتلك جيشها خبرة قتالية، لا يستهان بها. وبعكس انقلابى مالى وبوركينا فاسو، شاركت قيادات عسكرية فى انقلاب النيجر، وبقى الجيش موحدا، ويحظى انقلابه بحاضنة شعبية. وبمجرد انتهاء مهلة «إيكواس»، أغلق «المجلس الوطنى لحماية الوطن»، الذى يتولى السلطتين التنفيذية والتشريعية، المجال الجوى للبلاد، تحسبا لأى تدخل عسكرى. وبينما يحتاج التدخل العسكرى فى النيجر إلى غطاء قانونى، يتجلى فى استصدار قرار من مجلس الأمن الدولى، سيبقى الفيتو المتوقع من قبل روسيا والصين أو كلتيهما، معضلة حقيقية. فيما تطوى صفحة الرئيس، زوما، تدريجيا. ومع إصرار انقلابيى النيجر، مالى وبوركينا فاسو، على التصدى لأى تدخل عسكرى خارجى، تتصاعد احتمالات اشتعال حرب إقليمية بين الأنظمة الدستورية المؤيدة من فرنسا، ونظيرتها الانقلابية المدعومة من روسيا.
لما كان التهديد باستخدام القوة لا يعنى حتمية اللجوء إليها فعليا؛ انبرى مراقبون فى الرهان على سلاح العقوبات، الذى أثبت كفاءته حيال دول أفريقية عديدة. فنظرا لكونها دولة حبيسة، ومصنفة سابعة بين أكثر دول العالم فقرا؛ لن يكون بمقدور النيجر تحمل تنوع العقوبات، وقسوتها. لاسيما أنها تتضمن تجميد مساعدات اقتصادية تتخطى المليارى دولار سنويا، وتغطى 40% من موازنته العامة. فى الوقت الذى بدأت تداعيات تلك العقوبات فى الظهور سريعا، مع الارتفاع المتنامى فى أسعار السلع الأساسية، وتفاقم الأعباء المعيشية.
بيد أن تعاظم تأثير الضغوط على انقلابيى النيجر، لا يعنى، بالضرورة، إمكانية عودة الرئيس بازوم، أسوة بما جرى مع نظيره الفنزويلى، هوجو شافيز، عام 2002. فخلافا للحالة الفنزويلية الفريدة، يتوحد الجيش، وغالبية الشعب النيجريين خلف المجلس العسكرى الوطنى الحاكم، الذى يمضى بثبات لترسيخ أقدامه فى السلطة. إذ اعتمد حركة تنقلات داخل القوات المسلحة، وعين قائدا جديدا للحرس الجمهورى. وعشية اجتماع «إيكواس» الاستثنائى، سمى شخصا مدنيا لرئاسةحكومة انتقالية جديدة تضم كوادرمدنية وعسكرية. وبينما هدد المجلس بتصفية الرئيس بازوم، حالة تعرض البلاد للهجوم، يؤكد النيجريون اصطفافهم لمجابهة أى عدوان، يستهدف إعادة بازوم للرئاسة، على أسنة رماح الضغوط والتدخلات العسكرية الخارجية.