بيروت التونسى وباريس السعودى فى عشية سمك طيبة بالمرسى.. خواطر ذاتية حول روايتى «فى انتظار خبر إن» و«رجل للشتاء»

إبراهيم العريس
إبراهيم العريس

آخر تحديث: الخميس 14 أغسطس 2025 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

المكان مطعم سمك فاتن وحميم فى ضاحية المرسى، غير بعيد عن العاصمة التونسية. والزمان أواخر العام الماضى. أما الحضور حول طاولة لطيفة، فثلاثة: المفكر والكاتب التونسى الطاهر لبيب، والكاتب والدبلوماسى السعودى يحيى أمقاسم، وكاتب هذه السطور. يدور الحديث حول شئون العالم العربى وإحباطات المدن العربية، لكن خاصة حول روايتين كان الأولان قد أصدراهما خلال فترة سابقة، والثالث قرأهما فى فترة متقاربة معًا. فجأة لفت نظر هذا الأخير أمر كان لا بد أن يتنبه إليه قبل ذلك: غرابة اللقاء بالمقارنة مع حميمية الروايتين.. بالنسبة إليه على الأقل.

وتأتى الغرابة من كون الروايتين تنتميان مباشرة إلى نوع الأدب الروائى المعروف حديثًا بـ«تخييل الذات». فرواية لبيب «البحث عن خبر إن»، كما رواية أمقاسم «رجل للشتاء»، روايتان عن المكان، وتحديدًا علاقة كل من الكاتبين بالمكان الذى تدور فيه «أحداث» روايته وغربتهما عنه. رواية التونسى لبيب تتحدث عن تجربة عيش وحب وتماهٍ مع بيروت عاشها الكاتب، وهو بالأحرى عالم اجتماع كبير ومؤسس لما لا يقل عن تجربتين فى عالم الترجمة طبعتا ثقافة العالم العربى خلال العقود الأخيرة، بينما تتناول رواية السعودى أمقاسم تجربة عيش وحب وتماهٍ مع باريس، لا سيما الدائرة الخامسة عشرة فيها. والراويان يحضران فى الروايتين باسميهما، كما تحضر المناطق والأحياء والأزقة فى المكانين بأسمائها، بحيث يبدو كل من النصين أقرب إلى المذكرات واليوميات فى علاقة مع مدينة معينة. لكنهما مع ذلك روايتان، وربما روايتان تشغل المسألة اللغوية حيزًا أساسيًا فى كل منهما، وغالبًا بالنسبة إلى التفاعل مع اللغة المحلية فى كل من المكانين: المنطقة الغربية من بيروت، والدائرة الخامسة عشرة فى باريس.

حسنًا! كل هذا منطقى. فأين الغرابة التى يوحى أول هذا الكلام بها فى جلسة المطعم الحميمة بين الأصدقاء الثلاثة فى الضاحية التونسية؟

غرابة تتعلق بكاتب هذا الكلام تحديدًا. فأنا عشت النصف الأول من حياتى فى المنطقة التى تدور فيها رواية طاهر لبيب، فى بيروت. ثم عشت، ولا أزال، النصف التالى من تلك الحياة فى الدائرة الخامسة عشرة الباريسية، حيث «موضع» يحيى أمقاسم روايته التى هو، وليس أنا بالطبع، بطلها. والحال أننى، فيما كنت أقرأ «البحث عن خبر إن»، كنت أشعر طوال الوقت أننى أكاد أكون كاتبها، بل أنتظر الكاتب الصديق على واحد من المفارق لأصحح له عنوان زقاق أو اسم يافطة أو حتى توصيفه لسمات شخصية من شخصيات نصه، بالنظر إلى أننى كنت أشعر طوال الوقت أننى أعرف تلك الشخصيات، حتى ولو أنه جعل لبعضها أسماء مختلفة. وعلى الرغم من أننى قرأت رواية «رجل للشتاء» دون أن أكون أعرف كاتبها جيدًا، فإنها تتحدث، وبتفاصيل مدهشة، عن زمن وأزقة ومقاهٍ، وأكاد أقول حتى عن أشخاص يخيل إلىّ أننى أعرفهم جيدًا.

والحقيقة أن هذا التعرّف، الذى راح يصل فى بعض الأحيان حدّ التماهى المطلق، جعلنى أشعر وكأن أمقاسم استعار موضوعى ورفاقى وأزقتى، بل حتى مقاهيى فى شارع الكوميرس وساحة كامبرون، ليصوغ روايته. وهو ما جعلنى أتساءل عن مكان وجودى ووجود جوزف سماحة ومحمود درويش ومروان بشارة وغيرهم فى لحظة هذا المشهد من «رجل الشتاء» أو ذاك.

فتمامًا كما التقط التونسى، الذى هام حبًا ببيروت طوال عشرين عامًا، روح العاصمة اللبنانية وعاش فيها زمن شباب حقيقى، كذلك بدا الحال مع السعودى فى علاقته بالدائرة الخامسة عشرة فى باريس حين عاش فيها تقريبًا خلال الزمن الذى كنت فيه مع الأصدقاء الذين ذكرتهم أعلاه، نجتمع مرتين أو أكثر أسبوعيًا للعب البلياردو فى مقهى لا يزال قائمًا حتى الآن فى ساحة كامبرون وسط الدائرة الباريسية المذكورة، حيث لا أزال أقطن حتى الآن، تمامًا كما لا أزال أقطن فى بيروت فى قلب المنطقة التى لا شك أن الطاهر لبيب عرف كيف يتحدث عنها بأفضل مما كان فى إمكانى أن أفعل، تمامًا كما فعل يحيى أمقاسم بالنسبة إلى مكان سكنى الباريسى.

وذلك فى الحالتين دون أن أكون فى بال أى منهما فيما كان يكتب روايته. ولئن كنت لا أعرف كيف عاش أمقاسم وكتب روايته الباريسية البديعة فى زمن لم نكن نعرف بعضنا بعضًا فيه، فإننى كنت على رفقة يومية مع لبيب وهو يكتب روايته البيروتية. كنا مقربين إلى درجة أننى لم أعثر ولو على ظلى فى الرواية. وعلى العكس من ذلك، بالنسبة إلى رواية أمقاسم، رأيتنى إلى جانبه فى كل لقاء له مع واحدة من الشخصيات التى يتقاطع معها، ويتوقف حينًا عند أسماء بعضها مستفسرًا ومندهشًا، أو فى جلسة مقهى يتباسط فيها مع نادل أو متسول عابر.

ولربما شعرت دائمًا، أنا الذى لا أحب أبدًا أن تعبرنى أحداث كبرى، درامية أو غير درامية، أننى مرتاح إلى ما «يحدث» فى الروايتين وسط عوالم صاخبة تتجاوزنى وتتجاوز مقدرتى على التحمل، وشعرت بأن الكاتبين الصديقين قد كتبا، وكل منهما بلغته الخاصة المعبرة عن مجرى حياته الخاص، ما كان يمكننى أنا أن أكتبه عن المكانين نفسيهما وربما عن الشخصيات نفسها.

فهل أضيف إلى هذا ما لم أفاتح أيًّا منهما به فى جلسة المطعم التونسى تلك، بأننى تبينت خلال تلك الجلسة، وفى صحبة «مؤرخى» المرحلتين المتتاليتين من طوبوغرافية حياتى الماضية بين بيروت وباريس، أنهما قاما عنى بمهمة كنت أتكاسل طويلًا عن القيام بها، مع أنها خطرت فى بالى مرات عديدة خلال السنوات الأخيرة، موفّرين علىّ جهدًا وطاقة؟
لست أدرى، ولكننى أعتقد أن علىّ أن أختم هنا بما تبين لى حقًا فى تلك الجلسة، وبفضل الصدفة غير المتوقعة التى جمعتنى فيها بصديقين فتننى نص كل منهما، لكنى آثرت ألا أخبره بذلك، وربما فى انتظار أن أكتشف بنفسى سر ذلك الافتتان وفحواه، وهو ما أفعله هنا فى نص أخرج فيه، على أية حال، لمرة نادرة، عما اعتدته من ابتعاد متعمد دائمًا عن "لغة الذات" فى كتابتى مهما كانت حميميتها.

ولربما يكمن هذا «السرّ» فى ذلك الشعور الذى، ما إن تنبهت إلى علاقة كل من الكاتبين بمكان روايته، وكم أن فى تلك العلاقة من تخييل مبهر للذات فى نص روائى بعد كل شىء، حتى وجدت فى علاقتى الشخصية بالنصين معًا، دون أن يكون ثمة من علاقة بينهما سوى قراءتى لهما، ناهيك بسهرة المطعم التى جمعتنا من غير ميعاد، نوعًا من التفسير، الذى لا شك أنه لا يزال فى حاجة إلى تفسيرات أخرى أكثر تعمقًا، لمسألة ذلك السحر الذى يخلقه النوع الأدبى المسمى «تخييل الذات»، ولكن بالتأكيد بعيدًا جدًا عما كان يعتبر بالنسبة إلى الباحثين نوعًا من التلصص الممتع الذى كان السينمائى الكبير هيتشكوك يعتبره المحرك الأول لعلاقة المتلقى بالإبداع.

ولعل البعد الذاتى الذى أضيفه أنا هنا، كنوع من مساهمة فى «تفسير» الافتتان المذكور، ينضوى، ليس تحت عنوان التلصص، بل تحت عنوان التماهى المطلق، والعدوى التى تخلق شعور التماهى وتؤبده، جاعلة لعبة التخييل متقاسمة بين المبدع والمتلقى، دون أن توصل الأمور إلى حدودها القصوى، كما فعل هذا النص، على أية حال.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved