لا يترك المفكرون الأمريكيون أى فرصة تمر دون طرح سؤال متكرر يتعلق بإمكانية استمرار وديمومة القيادة الأمريكية للعالم. مناسبات مثل ذكرى أحداث 11 سبتمبر، أو مناسبة انتخاب رئيس على شاكلة دونالد ترامب، أو اختبارات كوريا الشمالية لأسلحة نووية، أو استمرار الحرب فى أفغانستان بدون انتصار لأكثر من ستة عشر عاما، أو تفشى سياسات وظواهر فاشية وعنصرية لم تتوقعها أمريكا من فئات داخل شعبها.
وتنبع فكرة قيادة أمريكا للعالم من أحقية تملك كل أمريكى وغير أمريكى ممن يتواجدون داخل الأراضى الأمريكية لأحلام يمكن تحويلها لحقائق على العكس من أغلبية دول العالم.
وتعتقد المدرسة الفكرية الأمريكية أن «أمريكا» الفكرة والحدوتة، عظيمة بطبيعتها. ويدعم هذه المقولة إيمان أغلب الساسة الأمريكيين أن «العالم ينتظر من الولايات المتحدة أن تقود العالم وأن تحل مشكلاته، لذا فعليها أن تمهد الطريق لقيادة العالم فى العقود المقبلة، وأن حل مشكلات العالم يتطلب مؤهلات وإمكانيات ودورا تستطيع أمريكا فقط أن تقوم به». وقال الرئيس السابق باراك أوباما: «إن كل دول العالم تشعر بالغيرة، وتتمنى أن تكون فى مكانة وقوة أمريكا».
***
لا يجادل أحد فى قيادة الولايات المتحدة للعالم تكنولوجيا واقتصاديا لأسباب مختلفة. ونعم تختلف وتتغير طبيعة هذه القيادة، فأحيانا تشاركها قوى أخرى مثل أوروبا أو الصين أو روسيا، وأحيانا أخرى يقل تأثيرها وتختفى قوتها مثلما الحال فى أفغانستان، وفى أحيانا ثالثة تكون قوتها عرضة لقيود كبيرة تقلص من تأثيراتها كما هو الحال فى أزمة كوريا الشمالية.
إلا أن إحدى المدارس الفكرية الأمريكية تؤمن بأن زمن الأفول الأمريكى لا يزال بعيدا، وتستشهد هذه المدرسة بأن العالم وسكان كوكب الأرض يحيون بالصورة والطريقة التى يختارها العقل والذوق الأمريكى من خلال تطبيقات تكنولوجية متنوعة من الـ«آيفون» و«توتير» إلى الـ«فيسبوك» و«جوجل»، ومن «أمازون» إلى «مايكروسوفت» ومرورا بـ«يوتيوب» و«إنستجرام». وتعتقد هذه المدرسة غياب أى خطر حقيقى على القيادة الأمريكية مادامت التطبيقات الحديثة يتم تصميمها وولادتها فى أمريكا. وتحسب هذه المدرسة أن «القلق الحقيقى على مستقبل الولايات المتحدة سيبدأ عندما تفكر أغلبية طلاب الدراسات العليا من الأجانب ــ فى مجالات التكنولوجيا والهندسة والكيمياء والفيزياء والبيولوجى والرياضيات ــ فى العودة لبلدانهم الأصلية بعد انتهاء دراساتهم، لا أن يبقى أغلب هؤلاء الطلاب بعد تخرجهم سعيا لتحقيق حلمهم الأمريكى حتى وإن كانوا غير أمريكيين.
وسيمثل انتهاء هذا السيناريو حال حدوثه انتهاء فكرة «الحلم الأمريكى» للملايين من أنبغ البشر، وأكثرهم قدرة على الخلق والإبداع. ولليوم مازالت عبارة «فقط فى أمريكا Only on America» ترن فى أذن صاحبها مذكرة إياه أو إياها بأنه يمكن تحقيق الحلم فى أمريكا فقط.
***
على الرغم من تأكيد مؤسسة جولدمان ساكس الأمريكية المرموقة أن الاقتصاد الصينى سيحل محل الاقتصاد الأمريكى كأكبر اقتصاديات العالم بحلول عام 2027، وعلى الرغم من قدرة الصين أخيرا على سرقة تكنولوجيا طائرات الشبح الأمريكية لتصنيع طائرة الشبح الصينية التى تم الكشف عنها أخيرا، وهو ما أظهر مدى التقدم الذى أحرزته الصين فى تطوير تكنولوجيات عسكرية متقدمة ــ فإن كل هذا، إضافة إلى ما يتناوله الكثير من المعلقين والكتاب حول العالم من أن الصين بدأت فى منازعة الولايات المتحدة فى ريادتها للعالم يظل محل شك كبير.
ويقول «فريد زكريا» المعلق المعروف، إن بروز الصين كقوة عظمى لم يعد توقعات وإنما هو حقيقة، فالصين حاليا تتمتع بأسرع معدل نمو اقتصادى عالمى، كما أنها ثانى أكبر مالك لاحتياطى العملات الأجنبية وبشكل رئيسى للدولار فى العالم. ويضيف زكريا أن الصين تمتلك أكبر جيش فى العالم يبلغ تعداده 2.5 مليون جندى، ورابع أكبر ميزانية للدفاع تزيد سنويا بمقدار 10 بالمائة. وعلى الرغم من الدلالات السابقة على تزايد مكانة الصين الدولية التى تزداد قوة كل يوم، ومع حرص صينى على أن تلعب بكين دورا عالميا متزايدا، إلا أن القيادة الصينية لا تمثلا بديلا للقيادة الأمريكية خلال العقود القليلة القادمة.
***
عام 1960 اشتكى الرئيس الأمريكى حينذاك جون كيندى من أن «القوة الأمريكية تتقلص أمام الاتحاد السوفيتى، وأن الشيوعية تتقدم بسرعة كبيرة فى كل أركان العالم». وفى عام 1979، اشتهر كتاب أستاذ جامعة هارفارد الشهير، إزرا فوجيل، بعنوان «اليابان رقم واحد: دروس يمكن الاستفادة منها»، ليزيد الفزع من النجاحات التكنولوجية والصناعية لليابان خلال سنوات سبعينيات القرن الماضى خاصة مع ما واكبه هذا النمو من حمى شراء يابانية فى الأسواق الأمريكية.
لذا من المبكر للغاية الحديث عن قيادة الصين للعالم أو توجيه بوصلة الشئون الدولية فى أى مستقبل قريب. فى الوقت الذى مازالت الجامعات الأمريكية تحتفظ بمسافة طويلة جدا تبعدها عن أى منافسة حقيقية مع أى من نظيراتها حول العالم، وطبقا لترتيب أفضل جامعات العالم الذى تجريه جامعة شنغهاى الصينية، كان نصيب الولايات المتحدة 17 من بين أهم 20 جامعة حول العالم.
وتلعب القوة الناعمة الأمريكية الدور الكبير فى أى تحد حقيقى يواجه الولايات المتحدة مستقبلا. وعلى الرغم من استمرار واشنطن فى اتباع سياسات تكلفها الكثير خارجيا، ووقوعها فى مستنقعات جيو ــ استراتيجية سواء فى الشرق الأوسط أو شرق وجنوب آسيا أو حتى فى القارة الأوربية، فإن طريقة الحياة الأمريكية يتم استنساخها حول العالم بسرعة مكوكية، ناهيك عن السينما واللغة الإنجليزية وسحرها حول العالم، ومقارنة باللغة المهددة لعرشها، وهى اللغة الصينية.
65% من طلاب الماجستير والدكتوراه فى مجالات العلوم والرياضيات والتكنولوجيا فى أكبر جامعات الولايات المتحدة هم من غير الأمريكيين، إلا أن الأغلبية العظمى منهم تختار أن تستكمل حياتها فى أمريكا، ومن ثم يكون خير علمهم عائدا للولايات المتحدة أولا.
وعلى الرغم من تعرض الولايات المتحدة لأزمات ومتاعب اقتصادية، وعلى الرغم من تنامى النزعة القومية الأمريكية العنصرية وانتخاب دونالد ترامب، فلا يزال طلاب الصين والهند وغيرها يترددون فى العودة لأوطانهم. وحين تختار هذه الفئة العودة إلى بلادها، حينذاك فقط سيكون موقع الولايات المتحد الريادى محل تساؤل، وهذا هو السيناريو المرعب لمفكرى أمريكا الجادين.