الديمقراطية واحترام العقود والعهود والمواثيق فى الدين والدنيا
أكرم السيسى
آخر تحديث:
السبت 14 سبتمبر 2019 - 10:25 م
بتوقيت القاهرة
تدور فى هذه الأثناء معركة حامية داخل الاتحاد الأوروبى، أساسها رغبة المملكة المتحدة فى الخروج من الاتحاد، ونرى الخلاف الشديد بين دول الاتحاد وبين بريطانيا حول كيفية الخروج، فترى دول أوروبا أن خروج بريطانيا يجب أن يكون منظما وقانونيا ومتفقا عليه بين الطرفين، وذلك تماما مثل انضمامها إلى الاتحاد، بينما ترى الحكومة البريطانية الحالية، بقيادة بوريس جونسون، ضرورة الخروج بأى ثمن حتى لو اقتضى الأمر أن يكون دون اتفاق، خاصة بعد فشل تيريزا ماى ــ رئيسة الوزراء السابقة ــ فى الحصول على موافقة مجلس العموم البريطانى على مشروع الخروج الذى توصلت إليه، والذى استمر إعداده سنتين، بذلت فيه قصارى جهدها، وقد حاولت أكثر من مرة تمرير مشروعها، ولكنها منيت بالفشل فى كل مرة، مما جعلها تبكى، لأنها تعلم أن فشلها سيعطى فرصة كبيرة لانقضاض نسور حزبها بقيادة اليمينى المتطرف بوريس جونسون الذى أعلن صراحة أنه يفضل الموت على تأجيل موعد خروج بلاده من الاتحاد!
وهذا ما حدث بالفعل، تقلد بوريس جونسون منصب رئيس الوزراء، وبدأ بقيادة بلاده للخروج من الاتحاد الأوروبى بأى ثمن، حتى ولو كان «طلاقا» بدون عقد أو اتفاق!، فقام بعدة زيارات لدول أوروبية لفرض آرائه عليهم، ولكنه فشل فشلا ذريعا، وعندما بدأ تنفيذ الخروج بدون اتفاق، انزعج الشعب البريطانى انزعاجا شديدا، وأبدت معظم الفئات والأحزاب اعتراضها، لأنهم يعلمون علم اليقين أن أى عمل بين طرفين دون عقد اتفاق يعنى «الفوضى»، وهذا لن يَسمح به الشعب البريطانى الذى يعطينا دائما المثل الأعلى لاحترام القانون وتقديس الدستور والتقاليد ــ داخل بلاده ــ مهما كانت الظروف، كما أنه يؤمن إيمانا مُطلقا بأن الديمقراطية هى مثل لوح من الخشب فى أعماق البحار تتلاطمه الأمواج، ولكنه لا يغرق أبدا.
بدأ بالفعل بوريس جونسون إنجاز الانفصال بدون عقد يحدد التزامات كل طرف نحو الآخر، وعندما أحس بالمعارضة الشديدة لجأ للاستثناءات التى يمنحها له القانون، وكى يفوت على البرلمان محاولة إيقاف مشروعه «الفوضوى»، أصدر قرارا بتعليق أعمال البرلمان لمدة خمسة أسابيع، ورفع طلبه للملكة التى وافقت على طلب التعليق، رغم معارضة الشعب وأحزاب المعارضة، لأنها رأت أن الطلب لا يتعارض مع الدستور، ولأنه من صلاحيات رئيس الوزراء.
ولكن الشعب لا يستسلم، فيقوم بمظاهرات منددة بمشروع تحقيق البريكست دون اتفاق، ويلجأ البعض إلى القضاء الذى يؤيد حق رئيس الوزراء فى طلبه معتبرا أن هذا عمل سياسى لا تدخل للقضاء فيه، وهكذا يدور السجال المحتدم بين الأطراف المتعددة لمنع صدور أى قرار سلطوى!، ومن الجدير بالذكر، لم نر ولم نسمع أحدا يتهم طرفا بالخيانة أو بالعمالة!
وبما أن القضاء أقر بأن هذا الموضوع هو شأن سياسى، وليس من شئون القضاء، يجتمع مجلس العموم، فى أول يوم بعد أجازته، وفى الأسبوع المتبقى له قبل تنفيذ قرار رئيس الوزراء بوقف أعماله، لكى يطرح مشروع قانون يمنع الحكومة من الخروج من الاتحاد الأوروبى بدون اتفاقية، والأدهى من ذلك أنه يأمر رئيس وزرائها بالعمل مع دول الاتحاد من أجل تأجيل تنفيذ البريكست إلى نهاية يناير 2020 بدلا من نهاية أكتوبر 2019!
لم يستسلم الرجل السلطوى لقرار البرلمان، فدعا لانتخابات مبكرة لكى ينسف البرلمان الحالى، ولكن البرلمان يوجه له ضربة ثانية، ويرفض الموافقة على إجراء الانتخابات المبكرة إلا بعد المصادقة النهائية على مشروع قانون تأجيل تنفيذ البريكست، وهذا من أجل أن يضمن تحويله إلى قانون! فقد فهمت المعارضة أن الدعوة لانتخابات مبكرة إنما المقصود منها تجريع البريطانيين سمّ الخروج من الاتحاد من دون اتفاق!
***
وتوضح هذه المنازلة الديمقراطية الرائعة وعيّ الشعب البريطانى بخطورة فسخ أى عقد دون اتفاق أو عقد بديل يُحدد حقوق وواجبات كل طرف نحو الآخر، وإذ ننتهز هذه الفرصة لكى نُذكر بقضية الطلاق الغيابى أو الشفهى التى أثيرت من فترة، والتى طرحها رئيس الجمهورية الموقر، وعارضها الأزهر الشريف، ونرجو من فقهائنا الأفاضل أن يعيدوا النظر فى موقفهم، فلا يمكن للزوج أن يفسخ عقد الزواج منفردا دون إبرام وثيقة طلاق بديلة، تُحدد واجبات وحقوق كل طرف نحو الآخر، وتجاه الأبناء حصاد هذا الزواج، لقد خص الله عقد الزواج بوصفه «ميثاق غليظ»، وهذا يعنى إمساك بـ«معروف» أو تسريح بـ«إحسان»! وقد تحدثنا عن هذا فى مقال سابق بعنوان «عن قانون الأسرة والطلاق الغيابى».
إن احترام العقود والعهود والمواثيق شىء مقدس فى كل الأديان، وحتى فى الفلسفات الوضعية، مثلما يأمُرنا سبحانه: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا»، هكذا لم يحاول أى طرف فى بريطانيا أن يكسر القانون أو الدستور، أو أن يتلاعب به، لأنه العقد المبرم بين الشعب والسلطة، فلم يصدر ــ على سبيل المثال ــ رئيس وزراء بريطانيا «إعلانا دستوريا» يُحصن به قراراته، ولم يطالب بـ«تعديل دستورى» يسمح له بتمرير مَطلبه؛ ومن ناحية ثانية، لم تخضع الملكة لطلبات المعارضة أو مظاهرات الشعب، وإنما خضعت لنصوص القانون؛ ومن ناحية ثالثة، أقرت المحكمة أن رئيس الوزراء تصرف بموجب القانون، ورفضت إصدار حكم يعطل تعليق أعمال البرلمان، لأنها رأت أن هذا الأمر ليس من شأن المحاكم، وإنما هو شأن سياسى، لا يصح إقحام القضاء فيه، وهكذا حافظ حُكم المحكمة على استقلال القضاء، وعلى الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية)، وعليه فقد استعملت كل سلطة ما هو مسموح لها دون التعدى على السلطتين الأخريين.
***
إن هذه المعركة السياسية الدائرة فى المملكة المتحدة تعطينا درسا رائعا، ونموذجا يجب على كل دول العالم الثالث أن تتعلم منه، وفى الحقيقة، هذه المعركة الديمقراطية البديعة لم أر أبدع منها إلا فى حوارين قرآنيين، مثالا للديمقراطية الإلهية، الأول بين الذات الإلهية والملائكة، والثانى بين الذات الإلهية وإبليس.
الأول عندما أمر الله الملائكة وإبليس معا أن يسجدوا لآدم: «وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين»، لم ترفض الملائكة الأمر الإلهى، ولكنهم أبدوا استفسارا واستعجابا، فكان ردهم: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ»، ويرد عليهم المولى فى نفس الآية السابقة: «قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»، ليكون الرد عليهم درسا للبشر فى حرية الرأى والمشورة، وما إن ثبُتت أحقية آدم فى الخلافة عندما علّم الله آدم الأسماء كلها، وأصبح مفضلا بالعلم عن الملائكة، حتى لبّت الملائكة أمر الله فسجدوا جميعا لآدم إلا إبليس، لأن الملائكة علِمت أن أمر السجود كان سجود تكريم لا سجود عبادة، كما يتضح أن الحوار القرآنى مع الملائكة لم يكن معهم بوصفهم معارضين للمشيئة الإلهية، وإنما بوصفهم مستفسرين عن الحكمة فى استخلاف البشر.
والثانى عندما رفض إبليس السجود، وتكبر، وأنكر حقيقة أفضلية آدم عليه: «قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين»، والجدل واضح فى رد إبليس، فمن أين له أن النار أفضل من الطين؟ ولو فاضلنا بينهما، ربما كان الطين هو الأفضل، لأن النار لها فوائدها العظيمة، لكن لها طبيعة تدميرية هائلة ليست للطين، وفى مقابل هذا العصيان، وهذا الجدل العقيم لعدم الاعتراف بالحقيقة، جاء الرد الإلهى بطرد إبليس من الجنة: «قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين».
ولكن إبليس يطلب من الله أن يُمهله، ويستجيب الله لطلبه، وكان بإمكانه القضاء عليه فورا، ولكنه لم يفعل ليُعلمنا إعطاء الفرصة للآخر، مع علمه اليقينى بأن إبليس لن ينجح فى مسعاه، وهذا كما جاء فى قوله تعالى: «قَالَ أَنظِرْنِى إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ»!
ونحن الآن أمام مشهدين، الأول دنيوى، نُعاصره، ونُشاهده بأعيننا، ونسمع عنه بأذننا، وعليه لا يمكن التشكيك فيه، والثانى قرآنى، لا ريب فيه، فى الدنيوى السيادة «للقانون» و«للدستور»، وأما الثانى فهو إلهى، والطاعة له واجبة، لأن الله هو «المطلق» له الإرادة العليا التى لا يمكن الخلاف معها، ولأنه إذا أراد شيئا فيقول له «كن فيكون»، فضلا عن أنه العالِم العليم بكل شيء، وبالمثل فى الحالة الدنيوية، «القانون» أو «الدستور» هو أيضا «المطلق» الذى لا يجب الانحراف عنه (مع الفارق فى التشبيه).
ومن هنا نستنتج أن الديمقراطية، وحرية التعبير، واحترام القوانين والدساتير والعقود والعهود والمواثيق تعتبر كلها ضرورة حتمية لا يجب بأى شكل من الأشكال التحايل عليها أو النقوض بها، لأنها الوسائل الوحيدة التى تضمن استقرار الشعوب، وتوافقها مع سلطاتها الحاكمة لها، ومن دون هذا لا تقدم ولا ونهضة ولا استقرار ولا أمان.
ونسأل الله الهداية للجميع.