فاروق شوشة.. عذوبة جمال الضاد
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 14 أكتوبر 2016 - 10:05 م
بتوقيت القاهرة
رحم الله الإذاعى والكاتب والشاعر الكبير فاروق شوشة (1936ــ2016)، الذى غادرنا فجر أمس (الجمعة) عن ثمانين عاما. بسبب صوت فاروق شوشة الذى كان يتهادى عبر الأثير، بعمقه ونبراته الهادئة الواثقة المتأنية، وبإشعاع حروف العربية وتوهجها، نشأت أجيال على محبة الشعر العربى واللغة العربية، وترسخ حب الإذاعة المصرية فى قلوبهم وقت كانت الوسيط التثقيفى الأول بلا منازع. أجيال كاملة سعت إلى احتراف العمل الإذاعى وتقديم البرامج الثقافية بسبب فاروق شوشة وأدائه الجميل فى الإذاعة، وكان برنامجه (لغتنا الجميلة) نسمة هواء منعشة، صحية، وسط قيظ وصهد لغوى خانق.
كذلك كانت الصفحات التى يحررها فى مجلة «العربى» الكويتية على مدى أكثر من 25 عاما متصلة، كانت تحمل من الفائدة والمعرفة والمتعة ما لا ليس له نظير فى أى من الدوريات الأخرى. وفى ظنى، إذا كان هناك من أحد، بعد طه حسين، قد لعب دورا فى جسر الهوة بين الشعر العربى القديم وبين الراغبين فى قراءته لكنهم كانوا يتهيبونه ويخشون الاقتراب منه، فهو فاروق شوشة، من خلال نشاطه الواسع فى إعادة قراءة وتحليل عيون الشعر العربى. كان يتميز باختياراته الرائعة وتحليلاته التى كانت تتميز بالعمق والبساطة والجمال معا.
ولعل، البرامج الإذاعية والكتب التى تركها فاروق شوشة فى هذه الدائرة، من أهم وأجل ما يمكن أن يقبل عليه محب للعربية عاشق لفنها الأول «الشعر»، يتعرف ويتلمس مواطن السحر والجمال فيها، بلا إغراق فى تفصيل أو تقعير أو غموض (راجع كتبه الرائعة.. «لغتنا الجميلة»، و«أجمل عشرين قصيدة حب فى الشعر العربى»، و«أحلى عشرين قصيدة فى الحب الإلهى»، و«الشعر أولا والشعر أخيرا»، و«أصوات شعرية مقتحمة»، و«مختارات من شعر أمير الشعراء أحمد شوقى».. وغيرها).
راد شوشة هذا الطريق (بوحى وإلهام من العميد طه حسين فى كتابه الرائد «حديث الأربعاء»)، ووجه أنظار النقاد ودارسى الشعر القديم ومتخصصيه إلى ضرورة التوسط بين المقبلين على قراءة ودرس الشعر القديم بتشابكاته اللغوية والجمالية والفنية وبين النصوص ذاتها. كان من الممتازين الذين أوتوا هذه الملكة وتلك البصيرة فى مقاربة هذا الفن المرهوب وأبياته الخالدة، وأن يستطيع تقديمها وتذليل صعوباتها وعوائق تذوقها بهذه السلاسة والعذوبة، وكانت الصفحتان اللتان يحررهما فى مجلة العربى واحةَ جمال، ووجبةَ شهية، يستعرض فيهما قصيدة «حلوة» من أجمل قصائد الشعر العربى.
منذ منتصف الخمسينيات، أصبح فاروق شوشة واحدا من النجوم البازغة بقوة فى سماء حياتنا الأدبية والثقافية، فترة كان النشاط الثقافى فيها متوهجا مزدحما بالأسماء المبدعة والمتفوقة فى كل المجالات، كانوا يكتبون ويبدعون بذوب قلوبهم ويسكبون على معاناتهم الإنسانية وتساؤلاتهم الوجودية وبحثهم المعرفى والجمالى المحموم. وعبر أثير الإذاعة المصرية، انطلق صوت شوشة يصدح بجمال لغتنا العربية؛ ذلك البرنامج المدوى الذى اكتسب شهرته من المحيط إلى الخليج، ينتظره كل عشاق العربية والباحثين عن جماليات الضاد من أبناء أجيال مختلفة رأوا فيه صوتهم، وأنصتوا من خلاله لهمس وجهر لغتهم الجميلة وما تحويه من كنوز ودرر.
عندما التحق فاروق شوشة بالإذاعة، كانت نقلة كبيرة، وكان قد بدأ ينخرط فى خضم الحياة الأدبية، وقد استغل عمله بالإذاعة، (ثم بالتلفزيون بعد ذلك)، فى جعلهما منارة حقيقية ووسيطا تثقيفيا بامتياز، وصارا منصة إطلاق لنشاط ثقافى محموم ومكثف من خلال برامجه الثقافية التى كان يقدمها، مثل (لغتنا الجميلة)، و(مع النقاد)، و(أمسية ثقافية)، وغيرها، كما أتاح له هذا العمل أن يوثق صلاته بأعلام الأدب والفكر لا فى مصر وحدها بل فى العالم العربى على امتداده، إذ جعل من البرامج التى يقدمها نوافذ يطل منها هؤلاء الأعلام على جماهير المثقفين فى الوطن العربى كله.
بالتأكيد، يحتل فاروق شوشة فى وجدان كل محب للثقافة واللغة العربية والشعر العربى مكانة كبيرة، ويظل فى قلوب محبيه وعارفى قدره نموذجا نبيلا لقيم الشرف والترفع والاحترام والتعفف. ولسوف تفتقده صفحاته التى كان يحررها ويكتبها بروح الجمال والعشق للشعر واللغة (فى «الأهرام» و«العربى» الكويتية وغيرهما) والتى بسببها أصبحت كتاباته زادا للألوف المؤلفة من قرائه ومتابعيه وعاشقى لغته وصوته الفخيم، سيفتقد أصدقاؤه وتلاميذه وجمهوره وجها انسانيا نبيلا، وقلما مبدعا يتوهج بالصدق والنقاء والعذوبة والجمال..
رحم الله الكاتب والشاعر والإذاعى الكبير وأسكنه فسيح جناته.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.