نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب سليمان بختى، تحدث فيه عن بعثة الطهطاوى لباريس، وعوائدها عليه التى دفعته إلى الاهتمام بالنهوض بمصر ثقافيا، عاش رفاعة مشتتا بين ثقافة متأصلة فى الشرق وثقافة وافدة من الغرب، إلا أنه آمن بأنه لا مفر من تبنى المدنية والعلوم الغربية والقانون إذا أراد العالم العربى النهوض... نعرض من المقال ما يلى.فى العام الذى انطوت فيه آخر راية فرنسية بعد الاجتياح الفرنسى لمصر، أى فى العام 1801، كانت ولادة رفاعة بدوى الطهطاوى، أحد أهم رواد النهضة المصرية والعربية الحديثة، حيث أسهمت مؤلفاته وأطروحاته فى إدخال الفكر التنويرى إلى مصر، محدثة بذلك منعطفا تاريخيا على طريق الحداثة والتنوير.
مدينة طهطا كانت مسرح ولادته، وأسرته تتحدر من أشراف الصعيد فى مصر. دَرس علومه الابتدائيّة فى طهطا وتعلّم القراءة والكتابة وحفظ القرآن فى سن مبكرة. وكان فى عائلة والدته عدد من المشايخ والعلماء، فقرأ على أيديهم الفقه واللغة والنحو؛ انتقل فى العام 1807 إلى القاهرة للالتحاق بالأزهر ودرسَ هناك الحديث والتفسير والفقه والنحو والمنطق، وتخرّج فى العام 1821 ليصبح مدرسا فى الأزهر.
شكل العام 1826 مفترقا مهما فى حياته، فقد أرسلته حكومة محمد على كإمام على رأس بعثة علمية إلى باريس. وكان هدف هذه البعثة دراسة العلوم والفنون والإدارة والهندسة والطب والكيمياء والزراعة والسياسة بغية إتقانها لتحديث مصر؛ إلا أن الطهطاوى، ولسعة آفاقه وانفتاحه، لم يكتف بدور إمام البعثة، بل قرَر تعلُم اللغة الفرنسية ودراستها مع طلاب البعثة. وهذا ما جَعل الحكومة المصرية تضمه إلى فريق البعثة نفسها وتطلب منه التخصّص فى مضمار الترجمة.
كانت تجربته فى باريس غنية وحافلة، إذ اطلع على آراء فلاسفة كبار من أمثال مونتسكيو وفولتير وروسو، فكان لهم أبلغ الأثر فى تطور فكره واتساع آفاق معرفته. كما اطّلع على حياة الفرنسيين وعاينها عن كثب ودوّن ملاحظات بصددها فى كتابه الشهير «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز». رأى الطهطاوى فى فرنسا سياسة قائمة على القوانين، فأُعجب بالسياسة والقوانين، ولم يكتف بذلك، بل دعا إلى تبنيها. لقد أدرك العلاقة الوثيقة بين العمران والحضارة وأنواع الفنون والآداب. ورأى أن النهوض بالوطن لا يتم إلا عن طريق نهضة العلوم، وأن نهضة العلوم تحتاج إلى تطوير اللغة وتحديثها، لأن اللغة هى خير وعاء لنقل هذه العلوم وتفعيلها فى الحياة والمجتمع.
لاحظ الطهطاوى أن العلماء فى الغرب غير مقيدين بنصوص مدونة فى التحريم والتحليل، وقارن بين منطلقات العلماء فى الشرق والغرب؛ ووعى بالتالى حرية البحث العلمى لدى العالم الغربى. ولعلنا نسأل هل استوى الشرق والغرب فى قلب الطهطاوى وعقله على وفاق، بحسب ما يقول د. حسين النجار، أم أن كل ذلك الافتتان بالغرب الذى دونه فى كتابه «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» تراجع عنه فى ما بعد فى كتابه الذى صدر بعنوان «مناهج الألباب فى مناهج الآداب المصرية»؟
• • •
عاد إلى مصر بعد خمس سنوات، أى فى العام 1831، ليبدأ نضاله الثقافى، فعمل سنتين فى مدرسة الطب. وافتتح سنة 1835 مدرسة الترجمة التى عرفت باسم «مدرسة الألسن» وتولى إدارتها. وفى هذه المدرسة كانت تُدرّس اللغات العربية والتركية والفارسية والفرنسية والإيطالية والإنجليزية والألمانية والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والعلوم السياسية. وفيها ترجم كتاب «مبادئ الهندسة» وكتاب «التعريبات الشافية لمزيد من الجغرافية». فى العام 1837 اقترح إدخال مسألة تعليم البنات فى بلادنا، ولعله الأول الذى نادى بذلك فى مصر والعالم العربى. كما تولى الإشراف على تحرير «الوقائع المصرية» وإصدارها بالعربية فى العام 1842.
فى عهد الخديوى عباس تدهورت علاقته بالقصر، إذ أَمر الأخير بإغلاق قسم الترجمة و«مدرسة الألسن» وطلب من الطهطاوى أن ينتقل إلى السودان ليكون ناظرا لمدرسة أراد إنشاءها فى الخرطوم، ولكن الطهطاوى اعتبر ذلك بمثابة أمر بنفْيه، وعانى صنوف القهر والإحباط والضيق، وعبر عن ذلك بقوله شعرا: «وما خلتُ العزيزَ يريد ذلّى/ ولا يصغى لأخصام مداد/ لديه سعوا بألسنة حداد/ فكيف صغى لألسنة حداد؟».
ظل الطهطاوى فى السودان يواجه قدره بالصبر والأناة، ويعكف، استطرادا، على ترجمة كتاب «مغامرات تليمارك«، إلى أن توفى الخديوى عباس وخلفه الخديوى سعيد فى العام 1854، والذى دشن عهده بإقفال مدرسة الخرطوم، فعاد الطهطاوى إلى القاهرة ليتولى نظارة الحربية، وأنشأ مركزا لمحو الأمية، وناضل لأجل تحقيق مشروعه «مكاتب الملّة» لتعليم أبناء الشعب وتربيتهم.
بعد تولى إسماعيل الحكم، عاود الطهطاوى نشاطه فى الترجمة والتأليف والتعليم. واختاره إسماعيل رئيسا لديوان المدارس، فأتيح له أن يلعب دَورا مؤثرا فى تنظيم اللغة العربية وتعليمها واختيار المدرسين وتنظيم الامتحانات، وكذلك تخصيص الكُتب المفيدة لكل مدرسة. كما طَرح مناهج جديدة للتدريس. وعلى الرغم من جهده الكبير المبذول فى التعليم، إلا أنه حن من جديد إلى الصحافة بعد تجربته الناجحة فى «الوقائع المصرية». فاستهواه العمل من جديد فى مجلة «روضة المدارس« 1870 التى أنشأها صديقه مبارك باشا، والتى كان شعارها: «تعلّم العلم واقرأ/ تَحز فخار النبوة/ فالله قال ليحى/ خُذ الكتاب بقوة».
كما كرّس الطهطاوى جهده للسعى فى إحياء التراث العربى الإسلامى. وأسهم فى نشْر عدد من الكتب التراثية مثل «خزانة الأدب» للبغدادى، و«مقامات الحريرى»، و«مقدمة ابن خلدون». كما استصدر أمرا ببدء جمْع الآثار المصرية والمُحافظة عليها لإنشاء متحف فى مصر.
من أبرز مؤلفاته «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» 1834، و«مناهج الألباب فى مناهج الآداب المصرية» 1869، و«المرشد الأمين فى تربية البنات والبنين» 1873، و«أنوار توفيق الجليل فى أخبار مصر وتوثيق بنى إسماعيل» 1868، و«نهاية الإيجاز فى سيرة ساكن الحجاز» 1873، وكان هذا الكتاب هو آخر ما كتبه قبل وفاته. هذا عدا الترجمات فى مختلف الفنون والعلوم ونذكر منها: «الحق الطبيعى» و«أخلاق الأمم وعوائدها»، وكتاب «المعادن» لفيرار وغيرها.
• • •
بحث الطهطاوى عن أسباب النهضة فى نظرته إلى الغرب، وقارن معطى بمعطى وبيئة ببيئة. وحاول جاهدا أن يعى ويتفهم ويبتدع مفاهيم «التبيِئة» بحسب المفكر المغربى الراحل محمد عابد الجابرى فى نهضتنا المرجوّة. ولكن الدافع الذى حركه فى ذلك كله هو بناء الوطن ونهضة المجتمع والمؤسسات والرهان على المعرفة والوعى المُفضيَين إلى التغيير.
حاول الطهطاوى تفعيل دور العقل فى الحياة والانتباه لقوة القانون فى حياة الغرب وإعلاء شأن قيمة العمل. تقاطعت فى حياة الطهطاوى إشكالية شرق/ غرب مثلما تقاطعت إشكالية التخلف/ النهضة/ الذات والآخر.
وهكذا لبث الطهطاوى يتأرْجح مضطربا بين أفكاره ومواقعه، بين عقل وعاطفة، وبين عادات وتقاليد متأصّلة، وعادات وتقاليد وافدة. ولكنه أصرّ على أن للتقدم أساسين: 1ــ تهذيب الخلق على الفضائل الدينية والإنسانية. 2ــ أهمية الشأن الاقتصادى الذى يؤدى إلى الثروة وتحسين الأحوال.
هل استطاع الطهطاوى التوفيق بين شرق وغرب، أم أنّه عاين التناقض والنّقص؟ ربما أهم ما فعله الطهطاوى أنه كرَس فى كتابته، بحسب ألبرت حورانى فى كتاب «الفكر العربى فى عصر النهضة» أن المُسلمين قادرون، بل ملزمون بدخول المدنية، وذلك بتبنى العلوم الأوروبية الحديثة وفتوحاتها وثمارها.
هل كانت تجربة رفاعة الطهطاوى تجربة من بواكير الحداثة أم تُحسب من بوادر الإخفاق كما عنْوَنت الباحثة ريما لبّان فى كتابها «رفاعة الطهطاوى والغرب» 2018؟
امتلك الطهطاوى دائما القصد والصبر والإرادة والعمل لتحقيق الإصلاح. وحمل فى قلبه حبا لوطنه، إذ يقول: «إن حب الوطن من الإيمان، ومن طبع الأحرار إحراز الحنين إلى الأوطان، ومولد الإنسان على الدوام محبوب ومنشؤه مألوف له ومرغوب. ولأرضك حرمة وطنها كما لوالدتك حق لبنها».
غادر الطهطاوى عالَمنا فى العام 1873 وها نحن بعد قرن ونصف القرن نتذكر دوره الكبير وإسهاماته كرائد من رواد النهضة العربية وناقل أمين للمعرفة ومُحارب عنيد ضد الجهل والظلام. وضع الطهطاوى اللبنات الأولى للنهضة فى مصر، وتميّز بحسّ وطنى صادق، وحاول بكل جهد حقيقى وإرادة صادقة أن يفتح الباب العملاق لتهب رياح التغيير والأنوار والإصلاح فى مصر والعالم العربى.
النص الأصلى: