عصمت أُمّ البحرية

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 14 ديسمبر 2024 - 8:50 م بتوقيت القاهرة


لافتة زرقاء مكتوب عليها «شارع عصمت أم البحرية»، يحملها جدار مبنى قديم لم يعد موجودًا، وبالكاد يحمل نفسه.. تُذكرنا هذه اللافتة بسيدة عظيمة عاشت هى وأهلها فى منطقة بحرى بالإسكندرية. بحُكم ميلاد عصمت محسن حسن الإسكندرانى عام 1897 ووفاتها عام 1973 فقد شهدت على عدة أزمنة، إذ عاصرت الخديوية المصرية (1998-1914)، والسلطنة (1914-1922)، والمملكة (1922-1953)، والجمهورية (1953-1958)، والجمهورية العربية المتحدة (1958-1971)، قبل أن نصل إلى مرحلة جمهورية مصر العربية وحرب أكتوبر.
أمضت أيامها الأخيرة فى عزبتها بشبراخيت، شرق محافظة البحيرة، وكان رقم تليفونها سريًا لا يعرفه سوى ضباط البحرية المصرية التى اعتبرتهم أبناءها وأعطتهم الإذن أن يطلبوها حين يحتاجونها بليل كما بالنهار. وكانت قد أوصت بترك جميع ممتلكاتها من أموال وعقارات وأراضٍ زراعية للكلية البحرية مساهمة منها فى النهوض بالأسطول المصرى، ووهبت بيتها الفخم الواقع فى شارع رأس التين إلى القوات البحرية ليكون ناديا لها. كما قدمت العديد من الخدمات لأبناء البحرية وأسرهم من خلال "جمعية أم البحرية" الخيرية، وذلك منذ تكريمها على يد الرئيس جمال عبد الناصر الذى منحها وسام "الكمال الذهبي" سنة 1955، وحين علم أنه سُرق منها أعطاها وساما آخر بدلا منه بمناسبة إنشاء المتحف البحرى فى أغسطس 1960، وذلك تقديرا منه بالطبع لمواقف هذه السيدة الوطنية التى تبرعت للجيش مع بداية حرب فلسطين عام 1948 بسفينة حربية مجهزة بالكامل على نفقتها ونادت بمقاومة الصهيونية العالمية.
• • •
هى تنتمى إلى عائلة ارتبط مصيرها بالبحر، فجدها حسن الإسكندرانى- ذو الأصول الشركسية- كان أمهر قائد بحرى مصرى من أيام محمد على باشا وسادس أمراء البحار المصريين قبل أن يلقى حتفه، بسبب عاصفة ضارية اندلعت أثناء حرب القرم بالقرب من البحر الأسود وهو فى طريقه إلى الأستانة عام 1854.
عشقت البحر وتربت على أساطيره ومغامراته وحكايات القراصنة. ووصفته فى أحد كتبها بهذه الكلمات: «البحر تعبير سما على بقية التعبيرات اسمًا ومعنى، فهو مهد الكائنات ولحدها، ومبعث الأمل، ومنشأ اليأس، يختار لنفسه من يشاء من الناس، فيسعده، ويعلى من شأنه، ويرفع من صيته». وبالفعل كانت هى ضمن هؤلاء، فقد أمضت 18 عامًا، وهى تجوب البحار فى رحلات استكشافية ودراسية ذهبت خلالها إلى العديد من البلدان منها لبنان وسوريا ودول المغرب العربى وإسبانيا، كما زارت متاحف ومكتبات بلجيكا وسويسرا وفرنسا، وقضت فى هذه الأخيرة عدة سنوات، نشرت خلالها مقالات وكتبا بالفرنسية التى كانت تتقنها إلى جانب العربية والإنجليزية.
وحين عادت إلى بلدها كتبت أيضًا مقالات فى الصحف حول موضوعاتها الأثيرة كالتاريخ العربى والتراث وحياة البحر، بالإضافة إلى عدد من المؤلفات بالعربية فى الفترة من الأربعينيات إلى الستينيات، مثل «أحاديث تاريخية»، و«من تاريخ هارون الرشيد والبرامكة»، و«صفحات من تاريخ البحرية المصرية»، و«موقعة نافارين»، وكتاب «المغامرات البحرية» وقد قامت هى نفسها بالعديد والعديد منها.
وخلال فترات استقرارها فى مصر كانت تتردد على البحر يوميًا، تصطاد وتستقل يختها الخاص أو القارب الشراعى بما أنها ملاحة ماهرة، تجيد قيادة كل أنواع السفن، الكبيرة منها والأصغر حجمًا، وتغطس أحيانًا إلى عمق قريب، وتتجول فى حلقة السمك الذى تعرف كل أنواعه، تستمع لنداءات الباعة وصخب المزادات، ثم ترجع إلى قصرها بمفردها سيرًا على الأقدام. بعدها تطيل الوقوف أمام مقتنياتها وتزيل عنها الأتربة بنفسها، فقد كانت تهوى جمع الكائنات المائية المحنطة والنقود الفضية والذهبية وطوابع البريد والأسلحة الصغيرة النادرة وبنادق الصيد واللوحات الفنية والتماثيل الفرعونية والساعات الرولكس. وكانت تهدى أول خريجى الكلية البحرية سنويًا واحدة من هذه الساعات الفاخرة وتحرص على حضور الاحتفال بالطلاب. وبالتالى كان مسموحًا لها أن تدخل مقر القوات البحرية فى أى وقت وأن تصعد إلى ظهر أى بارجة دون أن تعترضها عوائق، بحسب ما ورد فى جريدة الجمهورية فى أغسطس 1960، بمناسبة تكريمها.
وفى يوم الإثنين من كل أسبوع، كانت تزور مسجد سيدى على تمراز، بعد صلاة الظهر، وتوزع المال والطعام على الفقراء.. تطلب إليهم أن ينتظموا فى الصف كى لا يحصل أحد على ما ليس من حقه.
• • •
ارتبطت العائلة بمقام هذا الولى الذى أعاد بناءه جدها حسن الإسكندرانى، وقد تأثرت كثيرا بهذا الأخير دون أن تراه، فسارت على دربه. كانت تقرأ عن المعارك التى خاضها، واحتفظت بالكتب والدوريات والصحف وقصاصات الورق التى تناولت حياته، تتأمل فيها ثم تعيد رواية ما حدث كما لو أنها كانت هناك. وهو ما نلاحظه حين كتبت عن موقعة نافارين التى جرت عام 1827 فى البحر الأيونى أثناء حرب الاستقلال اليونانية، وتم خلالها تحطيم الأسطول المصرى بالكامل تقريبا فيما عدا بعض السفن والأفراد ومنهم جدها الذى سبح جريحًا وساعده جنوده على النجاة والعودة إلى مصر. حينها أخذ على عاتقه معاونة محمد على لإعادة بناء الأسطول فى مدة لا تزيد على ثلاث سنوات، وقام بإنشاء ترسانة الإسكندرية لتشييد السفن فيها بدلا من اللجوء للدول الأوروبية، إذ كان لا بد من تقليل الإنفاق العسكرى بسبب ظروف الكساد التجارى. وأصبح جدها مسئولًا عن البحرية المصرية، وكان مقتنعًا تمامًا أن أية محاولة للتحديث والتقدم محكوم عليها بالفشل فى عدم وجود أسطول يدافع عن السواحل المصرية الطويلة.
تروى عصمت تفاصيل المعركة الكارثية، فتذكر عدد السفن بالتفصيل ومن كان عليها وكيف غدرت بهم الأساطيل الثلاثة الإنجليزية والفرنسية والروسية، فكان لا بد من البحث عن ذريعة للقضاء على الأسطول المصرى وتغييبه عن المنافسة فى سيادة البحار وأن تعود مصر- كما كانت- ولاية فى دولة الخلافة التى تعيش أعوامها الأخيرة. كانت هناك نية مبيتة للغدر وإغراق السفن المصرية دون إنذار ولا إعلان حرب.
ولكثرة ما قرأت عن هذه الموقعة وغيرها، صار الشك جزءًا من تكوينها. ساعدت الجيش المصرى وناضلت ضد الصهيونية.. كانت تسأل وتناقش، تهب إنصاتها، ولا تهب ثقتها. لأنها فهمت مبكرًا أنه فى ظل المؤامرات الشبيهة تكون الوثائق والمعاهدات أوراقًا لا قيمة لها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved