محاولة مدهشة لمواجهة الحياة
محمود عبد الشكور
آخر تحديث:
السبت 14 ديسمبر 2024 - 8:45 م
بتوقيت القاهرة
لعل أجمل ما يميز هذه الرواية القصيرة، تلك البساطة الآسرة فى سرد التفاصيل، وذلك الشكل الذى يقترب من مونولوج طويل، ورغم أن الساردة تكتب رسائل لن تراها صديقتها أسيرة المرض الخطير، فإن الحكاية بأكملها مثل «بورتريه» شخصى واجتماعى ونفسى للساردة، التى تبحث عن ذاتها وصوتها وحريتها، ولا تجد وسيلة لذلك سوى فى الفضفضة الصادقة، وعبر تفصيلات اليومى والعادى، ومن خلال عددٍ محدود من الشخصيات والأماكن.
أحببت أيضًا فى رواية «اتجاه عكسى»، والصادرة عن دار المحرر، لمؤلفتها نسرين البخشونجى، هذه الحرية فى اقتناص اللحظات والمواقف، دون ترتيب زمنى، وإنما هو تيار متدفق من الوعى والمواجهة للذات وللآخر، أو بمعنى أدق «مواجهة الذات عبر الآخر»، بعد أن منحتها أزمة الصديقة الصحية فرصة نادرة للكتابة، وبعد أن وصلت بطلة الرواية إلى مرحلة فاصلة من حياتها الخاصة، وعليها الآن أن تستعيد الماضى كله، وأن تعيد بناء حياتها كاملة على الورق.
تنطلق الحكايات فى شتى الاتجاهات، وتتجمع فى شكل فصول لها عناوين، مع عددٍ قليل من الشخصيات: الساردة، وزوجها أحمد، وابنها ياسين، وابنتها مسك، ووالدة الساردة، وصديقتها الممثلة التى انقطعت أخبارها بسبب إصابتها بالمرض الخبيث، وشخصيات أخرى مثل معلّمات مدارس الأبناء، والجارات.
وعى الساردة بأزمتها حاضر طوال الوقت، ووعيها أيضًا بقلقها ومخاوفها فى قلب الصورة، وهى دومًا مثقلة بالماضى، مؤرقة بالحاضر، وقلقه من المستقبل، كل ما تعرفه أن لحظة التمرد قد حانت، وأن هاجس فقد الصديقة سيجعل بطلتنا تعيد اكتشاف ما فعلته بحياتها، وسيجعلها تعيد تأمل ما عاشته، ما بين الامتثال والتمرد.
• • •
البطلة ولدت فى أسوان، أمها من أسباب أزمتها، سيدة قوية الشخصية، مسيطرة، ومتحكمة، وكأنها تحول ضعفها إلى طاقة سيطرة على من تحب، تعلمت الساردة أن تلزم المنطقة الآمنة، تنازلت عن حلمها بأن تدرس الإخراج المسرحى، تزوجت وأنجبت طفلة وطفلًا، ولكنها تشعر الآن بالوحدة، ليست سعيدة فى حياتها الزوجية، زوجها أب رائع لأولادهما، ولكنها تشعر باغتراب معه، تطلب الانفصال، وتكرس حياتها لياسين ومسك، لا تتوقف مشاكل تعليمهما، ولا يبدو عملها حلا لأزمتها، تختار أيضًا أن تستقيل، هدفها الوحيد ألا تكرر نموذج أمها المتسلطة، وأن يتحرر ياسين ومسك منذ الطفولة، ولكن الطريق ليس سهلًا، تعرف الساردة القلق والاكتئاب، وتنتظم فى جلسات العلاج الجماعى، ومع ذلك لا تتوقف عن محاولات ترويض الحياة.
هذه خطوط عريضة للسرد، وتلك ملامح «البورتريه» المتناثرة عبر الفصول، حرية الذكريات زمانًا ومكانًا، بدت لى كما لو كانت حيلة فنية ممتازة، ترد بها الذات المتمردة على سنوات الامتثال فى المناطق الآمنة، والحياة فى طريق مرسوم، وعبر مسار إجبارى، لتتحوّل فى لحظة مواجهة إلى حرية فى الكتابة، بحثًا عن اتجاه عكسى مختلف، أما الشخصيات كلها فتعمل بمثابة كشاف ضوء لرؤية أعماق ذات متعبة، وأظن أن الترتيب الزمنى للأحداث، بدلًا من الترتيب عبر المشاعر والأحاسيس، كان سيحوّل الحكاية إلى سردية تقليدية مملة، وكان سيجعل زاوية الرؤية من خلال عيون مستسلمة لظروفها وأحوالها.
ليست صدفة أن تبدأ الرواية بقيام الساردة بقص شعرها على طريقة سعاد حسنى فى فيلم «صغيرة على الحب»، رغم استنكار الأم، وبعد لحظة ابتعاد عن الزوج أحمد، الذى حصل على منصب مرموق فى شركة أدوية فى الخليج، وليست صدفة أن يبدأ كل فصل بجملة، كاملة أو مجتزأة، من «المواقف والمخاطبات« للنفّرى، اختيرت بعناية لوصف حالة نفسية، أو لحظة مواجهة أو اكتشاف للذات، وكمثال فقط، فإن هذا الاقتباس من النفّرى، يكاد يلخص الرحلة كلها:
«وقال لى: اعرف من أنت، فمعرفتك من أنت، هى قاعدتك التى لا تنهدم، وهى سكينتك التى لا تزول».
يلفت النظر أيضًا محاولة مواجهة مخاوف الماضى، بدلًا من الهروب منها، فالفتاة التى خافت من الزواج والإنجاب، تزوجت وأنجبت، والفتاة التى عانت من الأم، رفضت أن تكون امتدادًا لها، وليست رحلات تنقل الطفلين بين المدارس، سوى محاولات مستمرة لرفض تحولهما إلى أدواتٍ وأرقام، وليست إلا محاولة بحث بدون تعب، لكى يصبحا شخصيات مختلفة وحرة، ومنذ سنوات التشكيل والتعليم الأولى.
يمتلئ النص بالتفاصيل، وبالحكايات التى يمكن أن تكون قصصًا قصيرة منفصلة، وفيه أيضًا حضور كبير للتواصل عبر وسائل إلكترونية، ومن خلال غرف المحادثات، ومع ذلك فلا يتغير البشر، ولا تتبدل صراعاتهم، ولا بحثهم الدائم عن الاستقرار والسلام النفسى، كما أن هذا التواصل الإلكترونى، حتى فى التعليم، ليس بديلًا عن التواصل المباشر، عن الإنسان الحى بكل حضوره، وبلحظات سعادته وآلامه.
• • •
علاقة الساردة بصديقتها إيمان التى تنتظر الموت ليست مجرد قصة إطارية، ولكنها الحياة الحقيقية المفقودة، تعارفا من خلال فيسبوك، ولكنهما التقتا، فصارتا صديقتين، ولعل إيمان التى تحققت بالتمثيل، والتى تصارع الموت، كانت نموذجًا للمواجهة فى صورة أكثر قوة، وكانت أيضًا الاتجاه المعاكس للحياة الرتيبة والتقليدية، وربما لو زادت مساحة الذكريات المشتركة معها، لكان النص أكثر ثراء وحيوية. ومع ذلك، تبقى فى الذاكرة قصص كثيرة، كتبت بصورة قوية ومؤثرة، ودون تزويق أو اصطناع، بحيث بدا السرد بأكمله وسيلة لاسترداد الاسم والمعنى.
نترك الحكاية دون نقاط فى نهاية السطر: إيمان - مثلًا - لن تقرأ ما كتب، ولكنها كانت من أسباب القدرة على ترويض الحياة، وهناك ابتعاد عن الزوج، دون انفصال نهائى، والأبناء فى مدرسة جديدة، ولكن دون ضمان للاستمرار، الكورونا لم تختف، ولكن الحياة تسير، والكل يتعايش معها، الأم موجودة، ولكن سيطرتها صارت بقايا ذكريات، وأطياف أشباح، وهناك عمل ونشاط، ولكن مع امتلاك لكلمة «لا»، واستخدامها عند اللزوم.
أما الحرية فهى فعل مستمر، واختبار يومى، فى العادى والمألوف، بقدر ما هو فى القرارات المصيرية. فى النهاية، تذهب الصديقة، ولكن فقدانها يصبح بداية لاسترداد الذات.