فى بعض دول أمريكا اللاتينية انتشرت أساليب مختلفة لسداد قيمة المشتريات، لدى محال بيع المواد الغذائية وسلاسل المتاجر الكبرى. فى الأرجنتين ــ على سبيل المثال ــ يمكنك أن تشترى جميع احتياجاتك ببطاقات ائتمان مخصصة لهذا الغرض، على أن يتم السداد على أقساط شهرية وبدون فوائد فى معظم الأحيان! معدلات التضخم الكبيرة التى ضربت الأرجنتين فى أعقاب تبنيها لبرنامج إصلاح اقتصادى حديث، والتى بلغت 40% فى عام 2016 وانخفضت بالكاد لتبلغ 21.6% فى 2017 دفعت الكثير من المواطنين والمقيمين إلى التوسع فى استخدام بطاقات ائتمانية مخصصة للشراء بالتقسيط من المحال التجارية المختلفة. ليست مزحة أن يخبرك أحدهم أنه قام بشراء هذه الكعكة بالتقسيط المريح، ولا إذا كان يرتدى قميصا لم يسدد من ثمنه أكثر من ربعه والباقى بالتقسيط على اثنى عشر شهرا وبغير فوائد. للوهلة الأولى ربما تتصور أن التاجر خاسر فى تلك الصفقة، ما يحمله على البيع بالتقسيط وبغير فوائد إن كان يبيع ذات السلعة نقدا وبنفس الثمن؟! الإجابة تكمن فى زيادة حجم المبيعات بشكل كبير مع تسهيلات السداد، حتى إن الأسرة التى اعتادت شراء احتياجات المنزل من البقالة بمبلغ ثابت من النقود، تشترى بأضعاف ذلك المبلغ باستخدام تسهيلات السداد وتحت تأثير خداعها النفسى، ولا يشعر المشترى بحجم العبء الذى ترتب على الشراء بالدين إلا عندما يفاجأ بمديونية كبيرة على بطاقاته مستحقة السداد فى آجال متفاوتة.
الأمر أشبه بعملية «الشراء على النوتة» التى كان ومازال بعض أصحاب المحال يديرونها فى الأحياء الفقيرة. فالبائع على النوتة لا يفعل ذلك بوازع من أخلاقه وتقديره للظروف الاقتصادية لجيرانه كما تصوره سيناريوهات الأفلام القديمة، لكنه قد فطن إلى أن الظروف الاقتصادية لزبائنه تحتاج إلى نوع من التسهيلات يسمح له بالاستمرار فى نشاطه، وإلا كسدت سلعته وانتهى أمره بالإفلاس المحتم.
***
الظروف الاقتصادية للمجتمع المصرى خاصة الارتفاع الكبير فى مستويات الأسعار، إذا ما نظرنا إليها فى سياق مبادرة الشمول المالى التى يرعاها الرئيس السيسى بالتحول إلى مجتمع لا نقدى، ترفع من احتمال دخول تلك التسهيلات الائتمانية سوق المشتريات اليومية للبيت المصرى بأقرب مما نتصور. لذا وقبل أن تفاجئنا كأحد مخترعات الهندسة المالية الجديدة، وقبل أن يهرع البعض إلى استصدار فتاوى دينية بشأن مشروعيتها! أردت أن أكتب هذا المقال بغية التمهيد والاستعداد، والبحث فى أدوات وقنوات التوعية اللازمة للسيطرة على النهم الاستهلاكى المعتاد، الذى بالتأكيد سوف تعززه وتضاعف من سعاره قوى شرائية مستحدثة، هى محض خطوط ائتمان ميسرة، تفتحها المحال الكبرى لعملائها بالتعاون مع البنوك، من أجل إعادة حركة البيع والشراء إلى مستويات ما قبل تحرير سعر الصرف، وربما إلى مستويات غير مسبوقة من نشاط التجارة الداخلية.
ستظهر الحاجة بالطبع إلى ضمانات مصرفية ينبغى على أولئك العملاء تقديمها، لاستصدار هذا النوع من البطاقات الائتمانية. عادة ما يكون الضمان راتبا أو دخلا ثابتا، بما يؤدى إلى حرص أصحاب الدخول على فتح حسابات مصرفية بادئ الرأى، لتلقى الرواتب ومصادر الدخل المختلفة، بغرض تعزيز الملاءة المالية المطلوبة للحصول على مختلف أنواع التسهيلات الائتمانية المشار إليها. ستحدث طفرة فى حجم الائتمان المخلوق من قبل البنوك المشتركة فى اتفاقات مع سلاسل المتاجر الكبرى، وسترتفع درجة المخاطر الائتمانية إلى مستويات قياسية، لكن كثيرا من الأرصدة الراكدة فى البنوك سيتم تحريكها داخل الاقتصاد، بما يدفع معدلات النمو الاقتصادى إلى أعلى، معززا بالاستهلاك فى المقام الأول كدأبه منذ سنوات.
المجتمعات المتقدمة مصرفيا ــ إن جاز الوصف ــ وتلك التى قطعت شوطا كبيرا فى مجال الشمول المالى، تجد صعوبة فى كبح جماح الشراء بالهامش (أو بالائتمان)، متى ارتبط باحتياجات الأسرة من اللحوم والخضروات وسائر المواد الغذائية والمستلزمات والملابس المطلوبة بصفة مستمرة... ومن ثم فالتحدى كبير بالنسبة لمجتمع مازال يخطو خطواته الأولى تجاه الشمول المالى، واستيعاب منظومة العمل المصرفى. المجتمع المصرى على وجه الخصوص يعانى عامته من تراجع معدلات الادخار لأسباب مختلفة، منها ما يرتبط بارتفاع معدلات الفقر، ومنها ما يخص سوء العادات الاستهلاكية، وانعدام القدرة على إدارة ميزانية الأسرة على نحو رشيد. الاستعداد للابتكارات المالية والائتمانية لا يكون بمنعها أو تجريمها وتحريمها كما أوضحنا فى المقال السابق، لكن لكل مستحدث منافعه وسلبياته، وتقتضى إدارة المخاطر تعظيم المنافع، والحد من التبعات السلبية قدر المستطاع.
***
الكائن الاستهلاكى النهم ليس غنيا بالضرورة بل هو فقير النفس والروح أيا كان مستوى معيشته، هو معنى فقط بإثراء جسمه بالملذات حتى صار أقرب إلى الحيوانات منه إلى الإنسان. بالنسبة للشركات الكبرى التى تحكم العالم فعليا لا يمكن أن تتراكم الثروات فى غيبة هذا الكائن، ولا يمكن أن يستمر النظام الاقتصادى العالمى دون خلق مزيد من الحاجات الوهمية لدى هذا الكائن حتى يستمر فى البحث عن منتجات لإشباعها. هكذا دون مؤامرة خفية تنافس أصحاب تلك الشركات فى توظيف خبراء السلوك وعلماء النفس من أجل تحفيز السلوك الاستهلاكى عند هذا الكائن حتى يستمر فى إنفاق معظم دخله على منتجاتهم فيصير لحمه ودمه وقودا لماكينات تلك الشركات وليس مشتقات النفط.
الشمول المالى لن تقتصر مظاهره إذن على فتح مزيد من الحسابات المصرفية، وزيادة حجم القروض للمشروعات الصغيرة والمتوسطة. سيتضمن الشمول المالى فيضا جديدا من التدفقات النقدية عبر المصارف، تلعب فيه أدوات الائتمان المختلفة دورا محوريا لزيادة التعاملات المصرفية، تماما كما لعبت الهواتف الذكية دورا مهما فى زيادة أعداد مستخدمى الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى بشكل خاص. هو نوع جديد من النقود الإلكترونية التى ربما تتحول عما قريب إلى نقود افتراضية بضمان مصرفى هذه المرة. تلك الحركة السريعة فى التدفقات النقدية يجب أن تواكبها حركة موازية فى الاقتصاد الحقيقى، وهى لا تأتى إلا بزيادة الإنتاج والإنتاجية. المصير الوحيد للتفاوت بين حجم المعروض النقدى والائتمانى من ناحية وحجم الناتج الفعلى من ناحية أخرى، هو مزيد من التضخم فى الأسعار مصحوبا بكساد فى الأسواق وتزايد معدلات البطالة، ذلك من أسوأ ملامح الكساد التضخمى.
***
كيف نتوقع زيادة الإنتاجية إذا كانت المحال تغلق أبوابها فى وقت إذاعة المباريات، وإذا فتحت أبوابها ترك البائع زبائنه وكأنهم لم يدخلوا عليه؟! كيف تزيد الإنتاجية إذا كانت استراحة صلاة الظهر تمتد إلى ما بعد آذان العصر، وبينهما لا تجد موظفا عاما يجلس على مكتبه إلا من رحم ربى؟! كيف تزيد الإنتاجية إذا كان العامل يطالب بحقوقه ولا يبالى بما عليه من التزامات، وإذا كان صاحب المال يحرص على تعظيم أرباحه غير عابئ بمستحقات الدولة، ونصيبها من الضرائب المفروضة على النشاط، فضلا عن المسئولية المجتمعية المفروضة عليه؟! كيف يزيد الإنتاج إذا كان تنشيط الصناعة المحلية يحتاج إلى قليل من الجهد والمال، لكن بدائل الاستيراد وربط الودائع فى البنوك وشراء أذون الخزانة تحول كلها دون بذل الجهد والمال من أجل خلق صناعة وطنية مستدامة وقابلة لمواجهة التحديات السياسية والاقتصادية المحدقة بالبلاد؟!.. كل ذلك وغيره كان سيئا مكروها عند من أدرك أزمة الاقتصاد العينى، وكانت تداعياته أكبر من أن يحتويها برنامج إصلاح مالى أو نقدى محدود الأثر.