الديمقراطية وحقوق الإنسان على أجندة بايدن

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 15 فبراير 2021 - 7:10 م بتوقيت القاهرة

يبدو أن شعار «عودة أمريكا»، الذى ترفعه إدارة بايدن، سيتسع لاستيعاب قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، ضمن لائحة أولوياتها المزدحمة. فمحليا، وبعدما امتدت صولاته وجولاته مع تلك القضايا لعقود متوالية، عمل خلالها عضوا بمجلس الشيوخ ونائبا لرئيس طالما أولاها اهتماما مثيرا كأوباما، أعاد بايدن ترميم الخطاب السياسى الرسمى لبلاده بمفردات على شاكلة: الحكم الرشيد، والحريات، وحقوق الأقليات، كما انبرى فى صياغة إجراء تنفيذى لإغلاق السجن العسكرى الأمريكى بقاعدة جوانتانامو البحرية بكوبا، ليمحو ما يعتبره حقوقيو العالم وصمة عار على جبين واشنطن. وبينما وصف الديمقراطية الأمريكية، عقب تبرئة مجلس الشيوخ لسلفه ترامب من تهم التحريض على التمرد، بأنها هشة وتحتاج لحمايتها، أكد مستشاره للأمن القومى، على ضرورة تجديدها تأهبا لمجابهة ما أسماه «تهديد الاستبداد الصينى».
أما على صعيد السياسة الخارجية، فقد أنهت أجندة الإدارة الجديدة جفاءً دام لسنوات أربع مع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، مؤكدة التزامها بالدفاع عنها فى أى موضع تتعرض فيه للانتهاك، تنفيذا لبرنامج بايدن الانتخابى لجهة معالجة أخطاء ترامب، الذى ألف الإشادة بالأنظمة الشمولية والحكام المستبدين. وفى خضم أزمتها النووية الملتهبة، أعاد بايدن تسليط الضوء على ملف الحريات داخل إيران. وبينما أدان رفض السلطات الروسية الإفراج الفورى وغير المشروط عن الناشط السياسى المعارض نافالنى، وآلاف آخرين من المتظاهرين السلميين، مؤكدا عزم بلاده التنسيق مع الحلفاء لمحاسبة موسكو على إهدار الحقوق الأساسية لمواطنيها، لم يتردد بايدن فى انتقاد تجاهل ترامب لملف الديمقراطية وحقوق الإنسان فى الصين، التى وصف رئيسها بأنه مناهض للديمقراطية، وقاتل للأقليات، لاسيما مسلمى تشينجيانج وبوذيى التيبت، متعهدا خلال خطابه الأول حول السياسة الخارجية، بطى صفحة ذلك التجاهل المخزى.
وفى خطوة فاقمت الجفاء مع أنقرة، التى استهل انتقاداته لنظامها إبان حملته الانتخابية عام 2019، واصفا إياه بالمستبد، ومتعهدا بمؤازرة معارضيه للإطاحة به عبر انتخابات نزيهة، أكد بايدن تمسكه بدعم المؤسسات الديمقراطية وحكم القانون فى تركيا، داعيا إردوغان إلى احترام الحريات، والالتزام بتنفيذ قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بالإفراج عن الزعيم الكردى صلاح الدين دميرتاش ورجل الأعمال المعارض عثمان كافالا، معبرا عن قلقه لجهة لوائح الاتهام المفتوحة ضد منظمات المجتمع المدنى والإعلاميين والسياسيين ورجال الأعمال، ومطالبا إردوغان بالتوقف عن قمع التظاهرات السلمية لطلاب الجامعات. وبعدما أحيا المبادرة العالمية، التى أطلقها أوباما عام 2011 للترويج لحقوق «مجتمع الميم»، الذى يضم المثليين ومزدوجى الميل الجنسى والمتحولين، ندد بايدن بما يلاقونه من كراهية وإساءات داخل تركيا، رغم إقرارها لتلك الحقوق. بالتوازى، دعت أغلبية من الحزبين بمجلس الشيوخ، إدارة بايدن للضغط على إردوغان عساه يعود إلى جادة الديمقراطية ويتوقف عن ملاحقة معارضيه داخليا وخارجيا، وإسكات الإعلام الحر، وتقويض استقلال القضاء.
ولما كان الانقلاب العسكرى بميانمار يشكل اختبارا مبكرا لجدية إدارة بايدن بخصوص حماية الديمقراطية عالميا، فقد هرعت إلى إدانته، مطالبة مدبريه بـالتخلى الفورى عن السلطة وإعادة الحكم المدنى، وإطلاق سراح المسئولين الموقوفين والمعتقلين السياسيين. وفى مسعى منه لبلورة استجابة عالمية مُنسقة تمهد بدورها الأجواء لاستعادة الديمقراطية، وقع بايدن أمرا تنفيذيا بفرض عقوبات تشمل ضباط الجيش الستة الحاليين والسابقين الذين قادوا الانقلاب، وأربعة أعضاء بالمجلس الإدارى للدولة، وثلاثة كيانات اقتصادية يمتلكها الجيش، كما تكفل منع قادته من الوصول إلى مساعدات أمريكية لميانمار بقيمة مليار دولار.
إلى جانب تحديات قانونية وثقافية وفلسفية وأخلاقية، كما ظلال خبرات الماضى المريرة، ثمة معضلات ثلاث تتربص بجهود بايدن لإعادة الاعتبار للديمقراطية وحقوق الإنسان. أولاها، التدهور المتلاحق فى تلك الأوضاع على الصعيد العالمى، جراء ارتدادات جائحة كورونا. فقد رصدت الجهات البحثية الدولية المعنية، انكماشا مروعا فى الحقوق الشخصية والحريات الفردية خلال العام الماضى، بما يضع ثلث سكان الأرض تحت طائلة الحكم الاستبدادى، تحتضن الصين وحدها غالبيتهم، فى ضوء إساءة استخدام الحكومات للإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية الطارئة لمجابهة وباء «كوفيدــ19»، إلى الحد الذى أسفر عن تراجع الحقوق المدنية، ومحاصرة الحريات، وانحسار الشفافية والمحاسبة، علاوة على تسجيل انتكاسات مروعة فى ديمقراطيات راسخة، بما يضع مستقبل الديمقراطية فى العالم على المحك.
وثانيتها، الاستخدام الوظيفى والانتقائى والمسيس لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان من قبل واشنطن. فمن جهته، وبينما لم يكن يكترث أصلا بتلك القضايا، أقدم ترامب على معاقبة كبريات الشركات ورجال الأعمال فى روسيا، بجريرة تدخلها فى أوكرانيا، ومحاولتها الهيمنة على أمن الطاقة الأوروبى، وسعيها لاستقطاب دول مهمة عبر بيعها منظومات تسليحية متطورة، وممارسة التجسس السيبرى، والتحريض ضد القوات الأمريكية فى أفغانستان، وملاحقة المعارضين والمنشقين. ورغم تغنيه بنظام حكمها، الذى يتيح لرئيسها الاستئثار بالسلطة مدى الحياة، ثم اتهامات مستشاره السابق للأمن القومى، جون بولتون، له بغض الطرف عن إمعانها فى التنكيل بمسلمى الأويجور، والعمل الممنهج لعزلهم وغسل أدمغتهم تمهيدا لمحو عقيدتهم وطمس ثقافتهم، مقابل تمرير اتفاقات تجارية وتفاهمات استراتيجية معها، لم يتورع عن فرض عقوبات على الصين.
بدوره، لم يبتعد بايدن فى تعاطيه مع قضايا الحريات والمسائل الحقوقية عن هذا النهج. فبعدما قض مضاجع الإيرانيين بفتحه ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان ببلادهم، بغية إيجاد ورقة ضغط إضافية على نظامها، آثر اعتماد مقاربة إدارة الخلافات مع «الخصم الروسى الشريك»، دونما استغراق عبثى فى تسويتها، مراعاة لطيف المصالح الاستراتيجية الأمريكية معها. ومن ثم، ندد بتعامل السلطات الروسية مع الاحتجاجات المصاحبة لاعتقال نافالنى، من خلال المقاربة البيلاروسية المتمثلة فى استنفار هياكل القوة، من الجيش والشرطة والاستخبارات، لقمع التظاهرات السلمية، وفرض القيود على المجتمع المدنى، وتقويض الحريات الأساسية.
ومثلما توسلت تحركات أوباما السابقة لترسيخ الديمقراطية فى ميانمار، عبر ترغيب نائبه بايدن الاقتصادى وترهيب وزيرة خارجيته هيلارى كلينتون العقابى، الحيلولة دون انزلاقها المعمق فى براثن النفوذ الصينى، يتوخى بايدن اليوم إجهاض مخططات بكين لتعزيز نفوذها هناك، مستغلة جوارها الممتد لألفى كيلومترا، وصلاتها الوثيقة بمنفذى الانقلاب العسكرى، الناقمين على ملاحقة واشنطن لهم بالعقوبات، علاوة على كونها الشريك التجارى الأول لها، فيما ناهزت مشاريعها بالبنى التحتية وخطوط النفط والغاز بميانمار، ضمن مبادرة الحزام والطريق، ستة مليارات دولار، بينما تجاهلت بكين الإلحاح الأمريكى لإدانة الانقلاب العسكرى، مكتفية بدعوة الأطراف المعنية إلى تسوية خلافاتهم من خلال الحوار.
أما ثالثتها، فتتجلى فى التأثير السلبى الذى خلفته ولاية ترامب الرئاسية اليتيمة على بقايا الصدقية المهترئة للادعاءات الأمريكية المتعلقة بحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان فى ربوع المعمورة. فمؤخرا، أدرج تقرير «مؤشر الديمقراطية» السنوى، حالة الديمقراطية الأمريكية فى عداد «الديمقراطيات المنقوصة»، مع استمرار التداعيات السلبية للاستخدام المسيس للتدابير الهادفة لتقويض جائحة كورونا، فضلا عن تآكل الثقة فى العملية السياسية، بكل ما تنطوى عليه من وسائط حزبية ومؤسسات حكومية ودستورية، إضافة إلى انفصام عرى التماسك الاجتماعى، وتشظى الإجماع الوطنى حول الثوابت الأساسية، بما يفاقم التحديات أمام مساعى بايدن لترميم اللحمة بين مواطنى بلد يكابد استقطابا حادا ويعانى تصدعا عميقا فى منظومته القيمية.
وبعدما أحبطت سلطات هاييتى، قبل أيام، محاولة انقلابية ضد رئيسها، جوفينيل موييز، المطعون فى شرعيته، والمتحصن بدعم أمريكى لتمديد ولايته الرئاسية المنتهية الأسبوع الفائت لعام إضافى، انهالت على واشنطن من هناك مطالبات فصائل المعارضة ومنظمات المجتمع المدنى، بمراعاة سيادة هاييتى واحترام إرادة شعبها. وفى حين رفضت أنقرة مطالبات الإفراج عن كافالا وديمرطاش، داعية مروجيها للنظر فى المرآة، واستحضار مشاهد الاستخدام المفرط للقوة ضد المتظاهرين السلميين فى بلدان طالما تفاخرت بديمقراطياتها الملهمة، أبدت موسكو، المتوجسة خيفة من محاصرة واشنطن لها بـ«الثورات الملونة»، استياءها من «النفاق الأمريكى»، الذى يتربص بالعالم، بينما يتناسى قمع السلطات الأمريكية لغزوة الكابيتول وما صاحبها من احتجاجات سلمية الشهر الماضى، دونما شجب لاعتقال الشرطة مئات المتظاهرين وإطلاقها النار على آخرين ما أسفر عن مقتل خمسة وإصابة العشرات. الأمر الذى شجع الخارجية الروسية على مطالبة إدارة بايدن بالالتفات إلى أحوالها الداخلية بدلا من التدخل المغرض والكارثى فى شئون الدول الأخرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved