التعليم العالى من التنوير إلى النيوليبرالية
العالم يفكر
آخر تحديث:
الأربعاء 15 أبريل 2020 - 12:15 ص
بتوقيت القاهرة
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب «محمد نجيب عبدالواحد» تناول فيه الحركة التنويرية فى القرنين السابع عشر والثامن عشر وكيف يرجع الفضل إليها لما وصل إليه التعليم المعاصر، إلا أن الحركة التنويرية لم تحصن المجتمعات من الحركة الليبرالية الجديدة متمثلة فى غزو العولمة واقتصاديات السوق وهو ما أدى إلى جعل التعليم العالى «سلعة» ــ نعرض منه ما يلى:
يدين التعليم الليبرالى المُعاصِر بوجوده إلى العديد من الأفكار التنويرية والصيَغ التربوية التى نشأت عن الحركة الفكرية التى قادها مفكرون وفلاسفة تنويريون أمثال كانط وروسو وغيرهم فى القرنَين السابع عشر والثامن عشر، والتى عُرفت باسم «التنوير»، حيث شكَلت العديد من مفاهيم التنوير ومبادئه ومُمارسَاته المُنبثقة عن العلمانية، التى هدفت فى ما هدفت إلى إبعاد التعليم عن الدين، العمود الفقرى للتعليم الليبرالى الحالى.
لقد دعا تيار التنوير هذا إلى الانفصال عن التقليد الدينى عبر فكرة راديكالية واحدة: رؤية الرجل كعضو فى المجتمع، أكثر من كونه «ابن الله»، وإلى استبدال الأهداف الدينية القديمة المُرتكِزة على التعليم التلقينى/الحفظى، الهادف بشكل رئيسى إلى «خدمة الله»، بأهدافٍ اجتماعية جديدة ركَزت على سعادة الشخص على وجه الأرض، وبخاصة سعادته كعضو فى المجتمع؛ ذلك لأن الحركة التنويرية لم تقتصر على التعليم بل هدفت فى الأصل إلى تحرير المجتمع ككل من العقائد السائدة، ورفض كل ما كان يعنيه العصر الظلامى بالنسبة إلى المجتمع.
قيَم التنوير وثماره
تبلورت القيَم التى أفرزتها الحركة التنويرية (القيَم الليبرالية للتنوير) بشكلٍ تام خلال القرن التاسع عشر واتَخذت أهمية مركزية مُستندة إلى دروسٍ عملية مما بات يُفهم على أنه «رسالة التنوير». فى هذه الحقبة، وعلى مدى ما يقرب من قرنَين من الزمان، بقيت شئون البحث والتدريس ومُمارسات الأعمال والسياسة الاقتصادية والسياسة تُقاد جميعها بقيَمٍ «مُطلَقة»، مبشِرة ونبيلة مثل العقلانية، والشمولية العالَمية، والحُكم المُطلق على الأشياء، والإيجابية، والموضوعية، والاستقلالية عن السياق، واحتقار التناقضات، والتفكير الخطى، والتسليم بوجود المعرفة غير السياسية، والإيمان بالعِلم، والتفانى فى الالتزام بالتقدم التقانى المُستمر. أدت جميع هذه القيَم فى العالَم إلى حالة من الإيمان بقيمة التعلُّم وبالدَور الشامل للتعليم فى المجتمع ونِطاقه. والأهم من ذلك أن التفكير النقدى والنقاش الحر باتا يمثلان الحجر الأساس للتعليم التنويرى.
تمخَض عن هذه المهمة مُنتجات ثلاثة تمثَلت بالديمقراطية والتعليم العام الحكومى (ما قبل الجامعى) والجامعة الحديثة، والأهم من ذلك أن جميع هذه الإبداعات أتَت مُترابِطة فى ما بينها: الديمقراطية تمكن التعليم العام، وتُوفره للجميع؛ الجامعات الحديثة تَدعم الحكومة وتُنوِر الجمهور لمُحاسَبة الحكومات أمام الناس؛ والجامعات تعتمد على التعليم العام الجيد، وتُسهِم بدَورها فى تحسين هذا التعليم.
تربَعت الجامعة البحثية الحديثة على رأس هذه الإبداعات، تلك التى كرَس مفهومها فيلهلم هومبولت فى برلين فى العام 1810 كنِتاجٍ لمشروعٍ ليبرالى صُمِم للنهوض بالحقيقة من خلال البحث العلمى، وتطوير الفكر العقلانى والنقدى من خلال التعليم، وتنوير الجمهور المجتمعى الأكبر. هذه الأهداف شكَلت الأساس المنطقى للوظائف الثلاث التى طالما تبنتها جامعات العالَم جميع (الوظيفة التعليمية، الوظيفة البحثية، الوظيفة الاجتماعية)، والتى ساعدت على إظهار الجامِعة كمؤسَسة عامة تم تصميمها لتعليم الطلاب على رؤية حياتهم فيها بطريقة محدَدة، كأفرادٍ فى مجتمع وثقافة وطنية.
فى ظل النيوليبرالية
لم تَجرِ الرياح كما اشتهت سُفن التنوير. فالقيَم والنظريات السياسية الموروثة من القرن التاسع عشر والمولودة فى عصر التنوير لم تُعِد الدول والمُجتمعات لمُواجَهة ظواهر مُزعزِعة مثل العَولَمة واقتصاد السوق والثورة الرقمية وما رافقها من «اقتصاد معرفى». لقد شهدت ثمانينيات القرن الماضى بزوغ تيارٍ جديد تحت اسم الليبرالية الجديدة (النيوليبرالية) انطلق، كما هو معلوم، فى أمريكا عندما بادر الرئيس الأمريكى ريجان بإجراءات إصلاحية رسمت تغييرا جذريا فى الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية فى أمريكا، مكرِسة تحولا عن النهج «التقدمى» الذى كان سائدا خلال السنوات الخمسين السابقة لعَهده، ومرسِخة لفلسفةٍ اجتماعية واقتصادية جديدة تبنت بشكلٍ تام قيَم ومُعتقدات «السوق»: خفْض النفقات العامة للخدمات الاجتماعية، وتخفيض اللوائح الحكومية، وخصْخَصة الخدمات التى تُسيطر عليها الحكومة، وإحالة مفهومَى «الصالح العام» و«المجتمع» إلى التقاعد كونهما باتا مفهومَين «قديمَين». وسرعان ما بدأت حكومتا ريغان وتاتشر فى الولايات المتحدة وبريطانيا بتطبيق هذه المُعتقدات على القطاع العام، ولاسيما على التعليم والرعاية الصحية من ضمن بَرنامجٍ إصلاحى رفع اسم «الإدارة العامة الجديدة» وقدَم طريقة جديدة للتفكير بالجامعة كشركة.
وهكذا تسلَلت النيوليبرالية إلى مؤسسات التعليم العالى حاملة مشروعا معرفيا اتجه إلى تجسيد المجتمع كنظامٍ اقتصادى للشركات يتم فيه إعادة تأهيل الأفراد كمؤسسات أو رجال أعمال، حيث تركَز تأثير هذا التيار بشكلٍ أساسى على تسليع التعليم العالى وإنتاج نَوع جديد من الهوية الاجتماعية لطالبيه، هوية الذات كرائد أعمال، ما أَفقد الجامعات مهمتها الإيديولوجية بعد أن بدأت بتشجيع الطلاب على التفكير فى أنفسهم كعملاء لها (زبائن) بدلا من أن يكونوا مُواطنين فى دولة.
لقد صاغ شهيد جاويد بوركى، الباحث الشهير فى التحديث الليبرالى الجديد فى مجال التعليم العالى، بعض المبادئ والأحكام الرئيسة للتحول فى هذا القطاع، والتى تمحورت حول:
الخصْخصَة فى مجال التعليم العالي؛ تقليص دعْم الدولة المالى المباشر فى المجال التعليمي؛ تسويق التعليم (المُنافَسة بين المؤسسات التعليمية)؛ التوجُه نحو الربحية (إنتاج وبَيع الخدمات التعليمية)؛ إنشاء سوق عالَمى للخدمات التعليمية؛ دمْج النُظم التعليمية الوطنية فى الاقتصاد التعليمى العالَمى.
وماذا عن عالَمنا العربى؟
لم يَجِد النموذج النيوليبرالى صعوبة فى الانتشار عالَميا. وما سهَل لهذا الانتشار أن الجامعات عرفت العولَمة منذ أكثر من مائة عام، أى قبل بزوغ العصر الحالى للعَولَمة، حيث شُرِع منذ ذلك الزمن بمُحاكاة النموذج الغربى للتعليم العالى فى جميع أنحاء العالَم، وبقى التشابه المُذهل بين الجامعات شاهدا على عولَمتها الراسخة.
لقد بيَن عالِم الاجتماع جون ماير من جامعة ستانفورد فى دراسة شملت المَناهج الجامعية عبر العالَم أن الجامعات فى البلدان النامية (ومنها العربية) تتسم بشكلٍ خاص بكونها هَياكل محلية تقوم بنسْخ مَناهِج الجامعات الغربية، تأكيدا لمبدأ الشمولية العالَمية فى التعليم العالى. لكن ما يدعو إلى التأمل هنا أن الجامعات فى هذه البلدان باتت تؤدى دَورا أشبه بـ «حصان طروادة فكرى» يَنشر معرفة لا تُلائم بالضرورة ثقافة البلدان التى تعمل بها.
تنوَعت مظاهر انتشار النموذج النيوليبرالى فى قطاع التعليم العالى فى المنطقة العربية بين الخصخصة الكلية أو الجزئية التى تميزت بانتشار الجامعات الخاصة الربحية (مع غياب شبه تام للجامعات الأهلية أو الوقفية) وفروع الجامعات الأجنبية، وتبنى الجامعات الحكومية أنماطَ تعليمٍ جديدة مأجورة كالتعليم المفتوح والموازى و«المُمتاز» والافتراضى... إلخ.
لن يتسع المجال هنا للحديث عن مَكامن «الظلامية» فى الجامعات العربية، سواء تلك الناجمة عن القصور فى مُواكَبة التعليم الليبرالى التنويرى، أم تلك الناجمة عن «الانزلاق» فى المُمارسات المُتناقِضة للنيوليبرالية، إلا أنه يُمكن الاستنتاج بسهولة، أن التعليم فى هذه الجامعات انساقَ بشكلٍ طبيعى، ومن حيث لا يَحتسِب، وراء المَوجة النيوليبرالية من دون أن «ينعم» كما يجب بقيَم التنوير. نتيجة لذلك، باتت الجامعات العربية مَوطنا لهويتَين اجتماعيتَين مُتنافستَين: من ناحية، فإن الطالب حين يدخل الجامعة يرى نفسه موجودا فيها لتلقى خدمة وتعزيز رأسماله البشرى، ومن ناحية أخرى، تُحاوِل الجامعة مُمارَسة دَورها التقليدى كمُنتِجٍ وحامٍ وغارسٍ للهوية والثقافة الوطنية.
هل كان بالإمكان مُقاوَمة المد النيوليبرالى فى التعليم العالى؟
فى الحقيقة، لم يكُن ذلك من السهولة بمكان لا على المستوى العالَمى، ولا العربى بعد أن أصبحت النيوليبرالية واحدة من الاستعارات المهمة فى تغييرات التحديث فى بداية القرن الحادى والعشرين، وأصبح العالَم أكثر براغماتية وتنافسية و«فوضوية»، وازداد الطلب على التعليم العالى لتلبية متطلبات الاقتصاد المَعرفى، وانتقلنا بجامعاتنا إلى النمط الاستيعابى الجماهيرى.
ما سبق يقود إلى الاستنتاج بأن النيوليبرالية، كالعولَمة، فَرضت نفسها على الجامعات فى كل مكان، كشرٍ لا بد منه! وذلك على الرغم من نشوء تيارٍ مُضاد اتسم بالتمسك العقائدى بالعقلانية والموضوعية، والإيمان بالعلوم الاجتماعية غير السياسية. تسبَب هذا التيار بتحويل الإيمان «الأعمى» بـ«الطريقة العِلمية» نفسها إلى شكلٍ آخر من أشكال «الأصولية» أَطلق عليه إرنست جيلنر فى العام 1992 تعبير «الأصولية التنويرية». وبغض النظر عن جدوى هذه «الأصولية» فى الظروف الحالية، فإن ما يهم هنا هو حقيقة أن مجموعة القيَم التنويرية لم تعُد بحد ذاتها كافية عندما يتعلق الأمر بالتعامُل مع عالَمنا المُعقد والفوضوى، وذلك على الرغم من قصص النجاح الهائلة للتنوير فى خلْق مَعارف جديدة فى القرون القليلة الماضية، وربما حان الوقت للتفكير بـ «تنوير جديد». على هذا التنوير المرجو توافره فى أذهان المدرسين أن يُحقِق بشكلٍ خاص نَوعا من التفتح القوى تجاه أخطار النيوليبرالية على التعليم. من أجل ذلك، يحتاج الأكاديميون فى الفضاء الجامعى العربى إلى استجابات إبداعية تُمكِنهم من اختراق المنطق النيوليبرالى وإيجاد مساحة لمُقاوَمته.
لقد حان الوقت فى جامعاتنا لإجراء مُناقشات عامة حول نوع المجتمع المطلوب، والاتجاه الذى تسلكه السياسات النيوليبرالية بالنسبة إلى المجتمع ومؤسساته، والمسارات البديلة التى يُمكن أن تؤدى إلى نظامٍ اجتماعى عادل واحتوائى. هناك العديد من المَسارات التى تؤدى إلى مجتمع جيد، وجميعها يرتكز على الجامعات الوطنية كواحدة من العناصر الرئيسة. لكنْ، وقبل ذلك، سيترتب على هذه الجامعات أن تستعيد قِيَمَها التقليدية وهياكلها الحَوْكَمية وأدوارها فى المجتمع إنْ أرادت أن تُقارِب المَسارات التى تؤدى إلى التنمية البشرية والمجتمعية.
النص الأصلى