التعلُّم من أنموذج عربى ناجح
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 15 مايو 2019 - 9:40 م
بتوقيت القاهرة
لننطلق مما حفره الفعل سابقا فى الواقع، ومما يحفره حاضرا، قبل أن ننتقل إلى مقتضيات المستقبل. ذلك أن أحداث الواقع العربى تزخر بالدروس والعبر.
نحن هنا معنيون فى الدرجة الأولى بمحاولات التغيير السياسى الجذرى من قبل جماهير شعبية كثيفة بمساعدة قيادية فاعلة من قبل كتلة كبيرة متفاهمة من مؤسسات المجتمع المدنى السياسية والنقابية والمهنية. ولنقتصر زمنا على السنوات الثمانى الماضية ومكانا على نماذج من أقطار الوطن العربى. هنا لدينا أنموذجان متقابلان فى الفاعلية والنتائج.
الأنموذج الأول كان فى شكل مظاهرات جماهيرية مليونية ضمت أفرادا عاديين ومثقفين وأشكالا كثيرة من مؤسسات المجتمع المدنى المعارضة للحكم المستبد الفاسد. لكنها افتقدت إلى وجود قيادة واحدة تمثل جميع مكونات ذلك الحراك الجماهيرى وتنطق وتتصرف باسمه وترسم له نشاطاته اليومية، وفى الوقت نفسه تتمتع بثقة غالبية أفراده وأفراد المجتمع بصورة عامة.
غياب ذلك التنظيم القيادى، القائم على أسس ثورية توافقية من جهة وعلى تنظيم وتوافق ديمقراطى من جهة أخرى، سمح باختراق تلك الحراكات الجماهيرية، والالتفاف حول مطالبها، وتأجيج الخلافات فيما بين مكوناتها، ودس الانتهازيين والاستخباراتيين فى صفوفها، ومن ثم إدخالها فى دوامة العنف. فكانت النتيجة تغيير بعض أوجه ومؤسسات النظام المستبد الفاسد السابق الذى كان يراد تغييره، ولكن دون سقوطه كليا، ومن الأعماق والجذور والشمول.
وهكذا ضاعت فرص تاريخية لإحداث تغييرات هائلة، وبُددت تضحيات جماهيرية كبيرة، لتنتهى إلى انتكاسات مفجعة ما زالت معنا إلى يومنا هذا. ذاك كان أنموذجا من الماضى.
أما الأنموذج الثانى فإنه ماثل أمامنا فى حراكين جماهيريين هائلين فى قطرين عربيين هما الجزائر والسودان. فى هذه المرة استوعبت مكونات الحراكين دروس التجارب التى سبقتها ونجحت فى إيجاد صيغة قيادية توافقية، يبدو أنها ديمقراطية فى تركيبتها واتخاذ قراراتها، استطاعت أن تدمج بصورة ناجحة أفرادا وقوى تمثل الأحزاب والنقابات والجمعيات والأفراد الملتزمين النشطين، وبالتالى جعل الكتلة الجماهيرية المليونية كتلة متفاهمة ومتناغمة يصعب اختراقها أو الالتفاف حول مطالبها أو إنهاكها وإدخالها مراحل الملل واليأس أو دخول الانتهازيين ضمن صفوف قياداتها.
شعور الجماهير بالثقة فى تلك القيادة، وبأنها تمثلهم، وبأنها لن تتخاذل عن التضحية معهم إن لزم الأمر، هو الذى يفسر القدرة الهائلة على إبقاء جذوة التجييش مشتعلة يوما بعد يوم وأسبوعا بعد أسبوع، دون تراجع ولا كلل ولا يأس. وفى كلتا الحالتين لم تنخدع الجماهير بالأقوال دون الأفعال ولم تقبل الحلول الوسط المؤدية فى النهاية إلى إبقاء الأوضاع السابقة كما كانت عليه فى الجوهر، ولكن وراء أقنعة مزيفة وماكياجات خادعة.
فى هذه المرة عرفت الجماهير أن التغييرات المجتمعية الكبرى تحتاج إلى نفس طويل وصبر وإصرار وضغط تراكمى على من يرفضون حدوث تلك التغييرات.
الأنموذجان يمثلان درسا للمستقبل، وهذا الجانب هو لب موضوعنا. لقد كانت تجربة الأنموذجين على المستوى الوطنى القطرى، فماذا عن المستوى القومى العربى لأمة العرب ولوطن العرب؟.
لا حاجة للدخول فى التفاصيل المملة بشأن الأخطار والكوارث الهائلة التى تحيط حاليا بالأمة كلها، ولا بشأن الدمار البشرى والعمرانى الذى يعيشه الوطن العربى كله حتى ولو بنسب متفاوتة. إن الوطن العربى يواجه الآن مؤامرة كبرى من قبل بعض الدول، وفى مقدمتها نظام الحكم الأمريكى الحالى، ومن قبل هجمة صهيونية يمينية متطرفة مترامية، معقدة ومستميتة.
يقابل تلك الأخطار صراعات وتمزقات فى الجسد العربى، لم يسبق لها مثيلا فى تاريخ العرب كلُه، الأمر الذى أنهك وأضعف المجتمعات العربية وأوصل العمل القومى المشترك إلى الحضيض فى مقدار فاعليته للوقوف فى وجه تلك الأخطار. ولأن مقدار الدمار والأخطار أصبح هائلا ومتشابكا أصبحت أية جهود وأية نجاحات على المستوى الوطنى القطرى غير كافية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه على المستوى القومى.
من هنا طرح السؤال الآتى: هل يمكن الاستفادة من نجاحات الأنموذج الثانى لخلق أنموذج ثالث مماثل، ولكن على المستوى القومى فى هذه المرة؟ هل تستطيع بعض الأحزاب وبعض النقابات وبعض الجمعيات المهنية وبعض الأفراد الملتزمين، ممن وصفهم فى السابق بعمق وثورية المناضل الإيطالى غرامشى؟ هل يستطيع هؤلاء أن يستجيبوا للتحديات التاريخية الحالية الهائلة التى نواجهها الأمة، فيخلقوا نواة قيادة توافقية، متعاضدة متناغمة، محكومة بالأسس والمنهجية الديمقراطية فى تركيبتها وعملها وقراراتها، قادرة على كسب ثقة الملايين من شباب وشابات الأمة العربية، مناضلة بسلمية لإحداث نجاحات تراكمية فى الواقع العربى من جهة ولإيقاف تمدد الاستباحة الاستعمارية والصهيونية من جهة ثانية، قادرة مع الوقت وباستمرار على اجتذاب قوى جديدة وأفراد جدد للانضمام إلى تلك النواة لتصبح فى النهاية كتلة تاريخية نضالية تحارب بألف طريق وطريقة من أجل إخراج هذه الأمة من الجحيم الذى تعيشه إلى نهضة عربية حديثة تستحقها؟
لا يحتاج الوضع العربى المأساوى الحالى إلى مزيد من التشخيص والأهداف الحضارية المستقبلية، بل يحتاج إلى تبنى الأمة كلها لنماذج ناجحة فاعلة فى بعض من أجزاء وطنها.