على عرفات الله.. فى رحاب الرحمن
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 15 يونيو 2024 - 5:40 م
بتوقيت القاهرة
(1)
كل عام وحضراتكم طيبون وبخير فى أول أيام عيد الأضحى المبارك، بعد أن لبَّى حجاج البيت الحرام النداء، ووقفوا على جبل عرفات وأدوا المنسك الأعظم، هذه المناسبة الأجل فى تاريخ الإسلام والمسلمين، يوم أن نزل من فوق سبع سنوات {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا}، نزلت هذه الآية الشريفة يوم الجمعة، وكان يوم عرفة بعد العصر فى حجة الوداع سنة عشر من الهجرة النبوية الشريفة، والنبى (صلى الله عليه وسلم) واقف بعرفات على ناقته القصواء (وكانت تسمى «العضباء» أيضًا).
حجة الوداع التى ألقى فيها الرسول، صلى الله عليه وسلم، خطبته الأخيرة، وفيها يقول عليه الصلاة والسلام: «أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربى على عجمى فضل إلا بالتقوى – ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد قالوا نعم – قال فليبلغ الشاهد الغائب».
إنها رسالة الإسلام العظمى للإنسانية، رسالة السماحة والمحبة والدعوة إلى التعايش واحترام الآخر، وإعلاء قيمة التقوى فلا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى.
إنها رسالة المحبة والسلام والدعوة إليهما، والتجرد من كل شىء إلا الالتجاء إلى الله واللواذ بعطفه، وفى رحابه، ومناجاته والتضرع إليه، ومخاطبته بلا وسيط ولا رقيب ولا أب ولا أخ ولا ابن ولا شقيق.. له وحده تتجه القلوب خالصة خاشعة متضرعة، وتلهج الألسن بالدعاء وحسن الظن فى خالق الكون.
(2)
ما من طقس دينى، وشعائر دينية معظمة حاطها الوجدان الشعبى العربى والمسلم، وفى القلب منه الوجدان الشعبى المصرى، بقداسة فائقة وتطلع يفوق الحد والتصور ورغبة ملحة مشتعلة لا تخبو حتى تتحقق بالزيارة وتعظيم شعائر الله، مثل رحلة الحج المقدسة وزيارة الكعبة المشرفة، والوقوف على عرفات الرحمة، والابتهال إلى الله من قلب العبد الخاشع المطيع الآمل فى رحمة ربه ولطفه وعفوه وغفرانه، طلبًا للاغتسال الروحى وتنقية القلب من الشوائب، والعودة إلى الديار نقيا مبرأ من الذنوب والمعاصى والآثام مثل الثوب الأبيض المطهر من الدنس.
وفى تراث إخواننا المصريين المسيحيين، تحتل رحلة الحج المعظمة إلى كنيسة الميلاد فى بيت لحم، وكنيسة القيامة بالقدس المحتلة (فك الله أسرها وحرر أرضها الطاهرة) تحتل القداسة ذاتها وتحاط بالمشاعر الروحانية ذاتها، ولها ما تراكم حولها من تعبير جمعى ومأثور شفاهى وإبداع توارثته الأجيال عبر العصور،
وكذلك فى تراث المصريين المسلمين الذين أبدعوا فى الاحتفالات المصاحبة لرحلة «الحج» منذ الخروج من المنزل بثياب الإحرام وإلى العودة بعد أداء المناسك، وبينهما عتبات ومراحل فيها كل جميل وكل صادق وكل تعبير مخلص عن الاشتياق لزيارة بيت الله الحرام، والطواف حول الكعبة المشرفة، والوقوف على جبل عرفات.
ومن بين مناسباتنا الدينية جميعًا يكاد يكون الالتفاف حول المشعر الحرام والتعلق بهتاف «لبيك اللهم لبيك» مغروسًا فى قلب كل مسلم منذ تفتحت عيناه على قصة الفداء الأعظم، وإبراهيم وإسماعيل، وبناء البيت الحرام، والهجرة وحجة الوداع وطواف الوداع وخطبة الوداع.
منذ كنا صغارا وقلوبنا وأرواحنا معلقة بتكبيرات العيد الجميلة المنغمة والموقعة قبل صلاة العيد فى الساحات والميادين «الله أكبر كبيرا.. والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا» (قبل أن تقتحم علينا حياتنا وممارستنا الدينية المنفتحة الجميلة المحبة ما يكدرها وينغصها ويقيدها وندخل فى جدل عقيم ومستفز حول ما يجوز ولا يجوز ويصح أو لا يصح.. إلخ) وفى اختلافهم رحمة لو كانوا يعلمون ويفقهون!
(3)
وأتذكر أننى منذ العاشرة، كانت الأيام القليلة التى تسبق الوقوف على جبل عرفات، تعنى لى بالأخص رحلة ممتعة فى سيرة النبى الكريم صلى الله عليه وسلم، أقرأ ما تيسر منها، وأتوقف أمام أحداث الفتح وحجة الوداع وأعيد قراءة خطبة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأجتلى معانيها الإنسانية العظيمة، بعيدًا عن التفسيرات المغلقة والأحادية، والضيقة والمحدودة.
إن رسالة الإسلام عظيمة، وروح الإسلام لا تناقض أبدًا سنة الله التى فطر عليها الخلق والأكوان، وفى القلب منها تكريم «العقل» ووضعه فى ذروة ما كرّم به الإنسان، به يعى ذاته ويعى خالقه ويعى الكون بأسره، ويدير شئونه وحياته كلها وفق مقتضيات العقل وفى هدى القيم الإنسانية والأخلاقية العظيمة التى أهداها الإسلام للبشرية من دون عنت ولا عنف ولا صراخ ولا حدية ولا تعصب.
أستغرب ممن يتوقفون عند ظاهر النصوص والحوادث والوقائع، ولا يحاولون أن يبذلوا أدنى مجهود فى إعادة قراءتها قراءة حرة مستنيرة تستخلص القيم العظمى وتعقد الآصرة المفقودة أو المقطوعة بين إسلام الحضارة وإسلام الفكر وإسلام المقاصد والإنسانية وبين العالم والبشرية كلها..
وكل عام وحضراتكم جميعا بخير وسعادة..