ركزوا تسعدوا
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 15 يوليه 2015 - 11:25 ص
بتوقيت القاهرة
أشفقت على طفل محتار، طفل لم يتعلم بعد كيف يمشى، وقد وضعوا أمامه لعبا من كل الأنواع والأشكال ليتسلى وينشغل بها عن آلام الهضم والشعور بالملل. مثله مثل غيره من الأطفال يفرح باللعب الموضوعة أمامه ولكن لوقت محدود. تراه بعد قليل وقد تمكنت منه الحيرة، فبأى لعبة يلعب، وتشتد الحيرة ويبدأ القلق ثم البكاء. لست عالما من علماء النفس ولكن من خبرة الأبوة تعلمت أن الطفل يفضلها لعبة واحدة ينشغل بها ويركز عليها. دائما لعبة واحدة كالأم يفضلها دائما واحدة.
***
كانت التربية الحسنة تقتضى من الأهل تلقين الأطفال وتدريبهم على الانتباه والتركيز. علمونا أنه من الأخلاق الحميدة أن ننتبه حين يتحدث إلينا الكبار، وأن ننظر فى أعينهم حين ينظرون إلينا، وأن نكون مستعدين دائما للإجابة على ما يسألون. كان التركيز خلقا حميدا، وكان الشرود وتشتت الفكر دليل جنوح وسوء تربية.
***
أكثرنا الآن وقد استبدلنا منظومة الأخلاق الحميدة بأخرى جديدة لا نجد غضاضة فى أن ينشأ أطفالنا مشتتى الفكر وضعاف التركيز. أتصور أن إقبالنا على حث أطفالنا على التمسك بملكة الانتباه نابع من حقيقة أننا كنا ونحن صغار نمارس حياة رتيبة. كانت أدواتنا قليلة: كتاب وورقة وقلم وكانت وظائف أهالينا وانشغالاتهم محدودة ومعروفة، وفى الغالب لا تتغير مهما امتد العمر. أبى وجدودى تقاعدوا فى الوظيفة التى بدأوا بها حياتهم العملية، وغالبا ما قضوا حياتهم أو معظمها فى الحى الذى نشأوا فيه.
أين هذا النمط من الحياة من نمط الوظائف «المتعددة» الذى يفخر به ويتباهى علماء النفس والإدارة الحديثة. الإنسان المثالى فى نظر هؤلاء هو من يمتلك الكفاءة والقدرة على أداء وظائف متعددة فى وقت واحد. بمعنى آخر، هو من لا يركز فكره وجهده على وظيفة واحدة أو عمل واحد.
لم أقابل، منذ فترة لا أذكر مدتها، سيدة مسئولة عن إدارة بيت تعترف بصدق أنها تقضى ساعات فى المطبخ تطهو الطعام لا يشتت اهتمامها خلال تلك الساعات هذا المحمول الذى لا يقوى على فراقها، يطمئن ويرتاح إلى دفء راحة يدها، ينقل إليها الرسائل ويستعجلها الرد عليها، يفاجئها بأحداث وحوادث لا علاقة مباشرة لها بالطبخة التى تسويها، يشد انتباهها إلى آخر صيحة فى الأزياء والزينة وآخر فضيحة فى أعمدة النميمة، ولكن أيضا تطورات الحرب والإرهاب وأخبار نشطاء الثورة والمظاليم والمحتجين والأعمال المجنونة المنسوبة لجماعة الإخوان.
***
أكاد، مثل كثيرين غيرى، لا أرى رجلا أو امرأة تقود سيارة إلا وكانت منشغلة بأمر آخر غير القيادة. كلهم، أو الغالبية العظمى، وبينهم قائدو حافلات المواصلات العامة والنقل الثقيل داخل المدن وعلى الطرق السريعة، يؤدون وظائف أخرى إلى جانب قيادة السيارة. كلهم، أو الغالبية العظمى منهم، يقودون وهم مشتتو التفكير وزائغو البصر.
***
لا أصدق أن هذا الكاتب الذى يكتب مقاله الاسبوعى خلال مشوار له فى سيارة أجرة أو رحلة فى طائرة أو فى قطار مهتم حقيقة بجودة ما يكتب. شرط الكتابة كما علمونا، وكما نعلم نحن الأجيال الصاعدة، هو التركيز والابتعاد عن كل مؤثرات تشتيت التفكير.
أنا أيضا لا أصدق أن العاشق ولهان ومخلص فى حبه إذا اصطحب معه إلى موعده الغرامى جهاز هاتف محمول. نشأت فى بيئة علمتنى هى والتجارب أن الحب عدو لدود للشرود وضعف الانتباه وقلة التركيز. إهانة لا تماثلها إهانة أخرى أن تشرد وأنت فى صحبة من تحب. إهانة أخرى، أن يشعر طرف فى علاقة غرام أن الطرف الآخر يعتبر الحب انشغالا أو واجبا يؤديه مثلما يؤدى غيره من المهام، له وقته لا أكثر. يعتبره وظيفة لبعض الوقت Part Time تنشغل بها لفترة ثم تنشغل بغيرها، أو تنشغل بها جميعا وبنفس القدر من الانتباه أو اللاانتباه. أليست هذه الشكوى الدائمة أسمعها من عدد كبير من الزوجات ومن بعض الأزواج؟
***
أين هذا الحال، حال انغماسنا فى انشغالات وأمور كثيرة، من حالنا حين كنا ننعم بساعات نسرح فيها. نسرح فى لا شىء.. نخرج فى نزهة على النيل أو فى الحدائق أو على السواحل لا نبغى أكثر من أن لا نفكر، وبمعنى أدق، نريح عقولنا وقلوبنا من تعب التركيز والانتباه. كنا سعداء.
***
خرجت علينا دراسات علمية حديثة تؤكد أننا أصبحنا نشعر بسعادة أقل لأننا فقدنا القدرة على التركيز. بمعنى آخر، وكما خلصت الدراسات، يزداد شعورنا بالتعاسة مع كل انحسار فى قدرتنا على التركيز. الطريف فى إحدى هذه الدراسات أنها اختبرت انحسار القدرة على الانتباه والتركيز على عينة كبيرة من العاملين فى قطاعات متنوعة، وتوصلت إلى أنه بينما كان متوسط مدة التركيز فى عام ٢٠٠٤ ثلاثة دقائق) لقراءة صفحة واحدة من صفحات منقولة بالإنترنت (انخفض فى عام ٢٠١٠ إلى دقيقة و١٥ ثانية، واستمر فى الانخفاض حتى وصل إلى ٥٩.٥ ثانية فى عام ٢٠١٤. فقدنا ثلثى قدرتنا على التركيز فى فترة لا تتجاوز اربعة أعوام.
* * *
تعددت الاقتراحات لوقف هذا النزيف فى قدرة الانسان المعاصر على التركيز، وبخاصة بعد أن تأكد المشرفون على برامج التربية من انهيار هذه القدرات لدى التلاميذ. يقترحون الاستعانة بتطبيقات إلكترونية حديثة مثل «الضبط الذاتى » Self control و «ركز جيدا» Concentrate، و«انتهى الوقت» Time out للتدخل تلقائيا من خلال اجهزة الاتصال الإلكترونى للحد من تشتت التفكير. هناك أيضا من يقترح اللجوء إلى الموسيقى الهادئة، وبخاصة الموسيقى غير المصاحبة للأغانى.
يبقى أن الحل الأمثل لمشكلة تدهور القدرة على التركيز هو الذى يبتعد بنا قدر الامكان عن الانترنت، وهو توظيف أحلام اليقظة، وبخاصة بعد أن صار هذا النوع من الأحلام يجد تأييدا واسعا من المتخصصين باعتبارها، أى الأحلام، أحد أهم مصادر الابداع والابتكار وبخاصة لدى جيل الشباب، وأحد أنجع أدوات التدريب على التركيز فى موضوع محدد لفترة طويلة نسبيا، وأحد أفضل السبل لتهدئة التوتر العصبى والتفكير الهادئ والوصول بالإنسان إلى سعادة ممكنة بجهد بسيط.
***
استعينوا بأحلام اليقظة على استعادة ملكة التركيز. لا خوف عليكم من أن تسلب الأحلام إرادتكم أو تهيمن أو تصبح هى نفسها عامل تشتيت. تعالوا نستبدل حال الاهمال وعادات اهدار الوقت وفلسفة الرضا بالمقسوم بحال الابتكار والابداع وفلسفة الحق فى السعادة.