الشرق الأوسط - لندن: أبطال الحبّ والسلام
صحافة عربية
آخر تحديث:
الإثنين 15 يوليه 2019 - 10:15 م
بتوقيت القاهرة
نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتبة آمال موسى، جاء فيه ما يلى:
هل الحبّ بطولة؟
يبدو لى أنّه إذا وضعنا أبعاد الحبّ جميعها فى الاعتبار، ونحن نحاول الإجابة عن هذا السؤال، فإننا سنقول إنّه فعلا بطولة منذ بداية الحياة الإنسانية، وأغلب الظن أنه فى هذا الزمن الرّاهن الذى نحيا فيه قد أضحى بطولة مضاعفة من منطلق كوننا نعرف مرحلة عصيبة من تهميش القيم.
طبعا لا شك فى أن اعتبار الحبّ بطولة يجرنا للحديث آليا عن أبطال، وهنا يجف ريقنا ونتلعثم فى تركيب جملة مفيدة، لأن الأبطال ندرة على مر التاريخ وأكثر ندرة اليوم، خصوصا عندما يكون موضوع البطولة يتصل بالقيمة الأم لكل القيم الإيجابية: أى الحبّ. ذلك أن قيمة الحب هى أصل كل قيم الخير، وهى تتطلب كفاءة عاليّة وصحة قيمية ونفسية وثقافية جيدة جدا. فالمرضى ثقافيا لا يستطيعون الحب، وإذا فعلوا كان حبهم مريضا، وإذا كان الحب مصابا بالمرض فقد انتفت عنه كل ملامح هويته كحبّ.
من حسن الحظ أن الذاكرة الإنسانية عرفت أبطالا فى الحب والسلام والخير، ومنهم المناضل الراحل مانديلا الذى أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ عقد أن يكون يوم 18 من هذا الشهر الحالى اليوم الدولى لنيلسون مانديلا.
عندما نذكر اسم هذا البطل فى السلام والحب والحرية والمساواة وحقوق الإنسان ينتابنا شىء من النخوة الإنسانية، ويتجدد فى داخلنا الأمل بأن العالم لا يمكن أن يفقد خصوبة الخير مهما بلغت الثقافة السائلة والمادية المستوحشة سقفا عاليا.
إننا فى حضرة حكيم من حكماء الإنسانيّة، إذ بين البطولة والحكمة لا يوجد جدار عازل، ولا حتى ستار شفاف. ولكل بطولة حكمة تحركها وتنميها، وتقوى أنفاسها، وتحرس بطلها، ليكون رمزا وفكرة وحكمة أبديّة نذكرها فنتذكر من أى نسل نحن حتى لا نضيع أكثر مما يجب عن إنسانيتنا.
فكما هو معلوم يعد مانديلا من كبار المناضلين فى حقوق الإنسان، حيث قضى نحو 27 عاما فى السجون من أجل مناهضة التمييز العنصرى، فكان تجربة فى الدفاع المستميت عن المساواة بين الأعراق والجنسين والحرية والسلام. ولما كان مناضلا ومحاميا فذا لحقوق الإنسان، فإنه نجح فى أن يكون أول رئيس منتخب ديمقراطيا لدولة جنوب إفريقيا.
اليوم مع الأسف أصبحنا نفتقد إلى هذه الطينة من الرموز التى فى خدمة الإنسانية، وفى حراسة ضمير العالم. وما يقلل من شدة هذا الأسف أن تراث مانديلا ما زال موجودا شاهدا عليه، ويخلده، حيث البقاء للفكرة، والرجل ترك لنا تراثا من الأفكار التى لو وجدت من يعتنقها، ومن يسخّر حياته لنشرها، ربما لكان حال العالم اليوم أفضل، خصوصا أن مانديلا وأمثاله ناضلوا من أجل إنسان أفضل، ومن أجل أن يكون منسوب الحب والسلام أقوى وأكثر تدفقا وغزارة.
وعندما نُقلب تراث نيلسون مانديلا نجده يقول لنا: «ما أسهل التخريب والتدمير، بيد أن الأبطال هم أولئك الذين يصنعون السلام»، ويكفى أن نتأمل واقع العلاقات الدولية اليوم لندرك حجم التشويه الذى لحق بفكرة البطولة التى غدت عند أقوياء العالم مرادفا للهيمنة والقهر المقنع، ومن أكثر قدرة فى صنع ما تمت تسميته تضليلا بالفوضى الخلاقة. بل إنّ فكرة صنع السلام ذاتها بكل ما تعنيه من نقاء وعمق قيمى وإنسانى أصبحت لا محل لها، ولا وزن فى مخططات معظم ساسة القرن الحادى والعشرين، وكأن دروس التاريخ مالت لصالح ثقافة الهيمنة والتمييز والتفاضلية الحضارية متناسية دروس الفاشية والنازية والنزعة الاستعماريّة التى فشلت، وتركت جراح العالم تئن، وتتناسل على نحو غير مباشر ومباشر.
أيضا نعثر فى التراث ذاته عن مقولات أخرى مهمة وقوية المعنى، ومنها قوله: «لا يوجد إنسان ولد يكره إنسانا آخر بسبب لون بشرته أو أصله أو دينه. النّاس تعلمت الكراهية، وإذا كان بالإمكان تعلم الكراهية إذن بإمكاننا تعليمهم الحبّ». ففى هذه المقولة ينتقل مانديلا من فكرة تعلم الكراهية إلى فكرة تعلم الحب بسلاسة ومنطق مذهلين، ويضعنا بأقل ما يمكن من كلمات، ومن خلال فكرة واحدة أمام لبّ المشكل، وهو أن الكراهية بجميع معانيها وتمظهراتها اليوم، وفى مستوياتها جميعا، إنّما هى نتاج تنشئة يتلقاها الإنسان، وتصنع منه فردا يمارس الكراهية فى وجدانه وعقله، ويترجمها السلوك والممارسات. أى إن المشكل يكمن فى مضامين التنشئة الثقافية القيمية، التى تقدمها الثقافات للأجيال، ما يعنى أن الكراهية ثقافة تكتسب وتنتقل عن طريق التنشئة الاجتماعية الثقافية، وتتوارث أيضا.
وهنا قد يشعل العقل السوى الضوء الأحمر، ويقول ما ضر لو استبدلت بمضامين الكراهية مضامين الحب والتسامح والتواصل الخلاق الإيجابى، الذى تزهر معه حقول الاخضرار بثمارها الناضجة النافعة.
يحتاج العالم بأسره إلى ورشة عمل جادة يعمل فيها أبطال الحب والسلام ليل نهار على المؤسسات المسئولة عن التنشئة الثقافية، وكيفية نزع مضامين الكراهية عنها، وزرع مضامين الحب التى سبق استئصالها من طرف منحرفين كبار جدا عرفهم التاريخ، وأرسوا تعليما خاصا بالكراهية.
إنّ ضمير العالم ينبض فقط بنضالات أبطال الحب والسلام الخالدين منهم والقلة الذين يستمدون قوتهم ممن سبقهم، ومن فكرة الحب وأمل السلام.
فالمشكل ليس دائما فى وجود الطغاة وأعداء السلام، بل فى خطر انقراض أبطال الضمير الإنسانى، ودونهم ينتفى صراع الحب والكراهية والحرب والسلام.