ترويض إسرائيلى لحركة «حماس»
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 15 أغسطس 2022 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
رغم ولادة حركتى «حماس» و«الجهاد الإسلامى» من رحم جماعة الإخوان المسلمين، إلا أن حبليهما السُريين ظلا متصلين بإيران. وبموجب استراتيجية «وحدة الساحات فى جبهة المقاومة»، وقفت حركة الجهاد إلى جانب حماس، خلال حروبها الخمسة التى خاضتها ضد إسرائيل، منذ عام 2008 وحتى العام 2021. وبمجرد اندلاع العدوان الإسرائيلى الأخير على حركة الجهاد بالقطاع، أقدمت «غرفة العمليات المشتركة للأذرع العسكرية لفصائل غزة»، بقيادة حركة حماس، والتى تأسست عام 2006، وتضم 12 فصيلا، باستثناء حركة فتح، على إعلان حالة الاستنفار القصوى.
وبينما ظل قطاع غزة مسرحا للغارات الإسرائيلية، التى استهدفت حركة الجهاد حصرا، آثرت حماس التزام الحياد، برغم مقتل أحد عناصرها على إثرها. ومن خلال هجومها المسمى «الفجر الصادق»، أجهزت إسرائيل على عدد من قيادات حركة الجهاد داخل القطاع، كما دمرت جانبا من بنيتها العسكرية وخلاياها المسلحة. أما حركة، حماس، المسيطرة على غزة، فاكتفت بإعلان مؤازرتها المعنوية لحركة الجهاد. إذ خولتها استخدام القطاع منصات لاطلاق صواريخها ضد الأهداف الإسرائيلية، ناعية شهداء العدوان الإسرائيلى عبر بيانات رسمية.
لم تكن تلك هى المرة الأولى، التى تتخلى فيها، القيادة الحمساوية «لغرفة العمليات المشتركة للأذرع العسكرية لفصائل غزة»، عن مساندة حركة الجهاد أثناء الاستهداف الإسرائيلى لها. حيث سبق لحماس أن سلكت ذات المسلك عام 2019، حينما اعتبرت الأمر مجرد موجة تصعيد، لا ترقى إلى مستوى المواجهة العسكرية المفتوحة. الأمر الذى طرح علامات استفهام ملفتة، بشأن مستقبل العلاقة بين الحركتين، ومآرب حماس من وراء حيادها المثير للجدل.
كأننا بحماس، وقد أبت إلا الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار، الذى أدركته مع إسرائيل، برعاية مصرية، فى العشرين من مايو 2021، بعد مواجهات دامت 11 يوما، وخلفت 248 شهيدا فلسطينيا، و12 قتيلا إسرائيليا. فلربما تراءى للحركة أن تكرار المواجهات المفتوحة مع إسرائيل، بات يستنزف طاقاتها، ويهدد مشروعها الهادف للاستئثار بحكم القطاع. فلطالما أعاقت الحروب تدفق الدعم المالى للغزيين من مشارب شتى، بمباركة إسرائيلية. كما يؤدى توسيع المواجهات مع جيش الاحتلال إلى حرمان قرابة 15 ألف عامل فلسطينى وعائلاتهم، من عوائد العمل داخل إسرائيل، بما يفرض على سلطات حماس أعباء مالية قد يستعصى عليها الاضطلاع بها. لذلك، وتحت وطأة مساعيها الحثيثة لرفع اسمها من لائحة المنظمات الإرهابية، تمهيدا لنيل الاعتراف الدولى بها كممثل للفلسطينيين بدلا من سلطة فتح المتهاوية، بدأت الحركة تميل إلى تغليب الحسابات السياسية البراجماتية، على التوجهات الجهادية المؤدلجة.
فكريا، لم تتورع الحركة، عقب سقوط حكم الإخوان فى مصر عام 2013، عن إدخال تعديلات فارقة على ميثاقها، الصادر عام١٩٨٧، بما يوطئ لدخولها على خط التسوية السياسية. فخلافا لمادته الأولى، التى كانت تؤكد على صلتها التنظيمية بجماعة الإخوان المسلمين، المصنفة حاليا تنظيما إرهابيا، طوى النص الجديد صفحة تلك الصلة. وبدلا من مبدأ العمل على إزالة الكيان الصهيونى، أقر النص البديل قبولا بدولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧. كما سلَم بأن الصراع مع إسرائيل، سياسى وليس دينيا.
سياسيا، أبدت الحركة استعدادا للتوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى مع الحكومة الإسرائيلية. وتوخيا لذلك، دفعت إلى تسريع المفاوضات غير المباشرة، التى تجرى بوساطة مصرية. كما ألمحت، قبيل اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة ضد حركة الجهاد، بأن أحد الجنود الإسرائيليين، بحوزتها، لا يزال على قيد الحياة. حيث تزعم إسرائيل أن الحركة تحتجز أربعة إسرائيليين، بينهم جنديان، تعتقد فى مقتلهما إبان حرب العام 2014، لكن حماس لم تفصح عن مصيرهم.
بدوره، أكد وزير الدفاع الإسرائيلى بينى جانتس، أن العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة فى غزة قد تعجل بإبرام صفقة تبادل للأسرى مع حماس. ومن شأن ذلك، حالة حدوثه، أن يعزز الموقف الانتخابى التنافسى للابيد وجانتس خلال الانتخابات، المزمع إجراؤها فى شهر نوفمبر المقبل. كما سيرسخ دعائم نفوذ حركة حماس فى الشارع الغزوى والفلسطينى؛ إذ تطالب بالإفراج عن المئات من الأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال، لاسيما أولئك المحكوم عليهم بالسجن المؤبد. وكانت المساعى المصرية بالتوسط فى ملف الأسرى بين إسرائيل وحماس، قد نجحت عام 2011، فى إبرام صفقة تضمنت الإفراج عن جندى إسرائيلى، مقابل إطلاق أكثر من ألف أسير فلسطينى.
اقتصاديا، يكابد سكان غزة، الذين يتخطى تعدادهم مليونين وثلاثمائة ألف، انهيارا فى الأوضاع المعيشية، جراء تجدد المواجهات بين حركة حماس وجيش الاحتلال، بالتزامن مع ولوج الحصار الإسرائيلى الجائر واللاإنسانى للقطاع، عامه السادس عشر على التوالى. فضلا عن جفاف منابع التدفقات المالية الخارجية للحركة، وتضييق السلطة الوطنية الخناق على نشاطاتها. فى الوقت الذى وضعت مصر نهاية لتراجيديا الأنفاق، التى كانت تستخدم فى التهريب والإرهاب، فيما كانت الحركة تجنى من ورائها مئات الملايين من الدولارات. وبناء عليه، أضحت حماس منذ العام 2019، فى مرمى عاصفة من الاحتجاجات الشعبية الغاضبة، التى تندد بالأوضاع الكارثية. وما إن تعاطت سلطة الحركة معها بمستويات مقلقة من العنف والقمع، استجلبت الانتقادات والإدانات الدولية، حتى أخذت رقعتها فى الاتساع تدريجيا، على نحو بات يشكل تهديدا لاستدامة سيطرة الحركة على القطاع.
تطلعا منها للتخفيف من غلواء تلك المأساة، نأت حماس، بنفسها عن التورط فى التصدى لعملية «الفجر الصادق» الإسرائيلية.
فإلى جانب حرصها على استكمال مشاريع الإعمار والبنى التحتية بالقطاع، تتمسك الحركة بتفاهماتها مع الإسرائيليين، بشأن زيادة عدد التصاريح الممنوحة لسكان غزة من أجل العمل فى إسرائيل. وفى حين تلتمس إسرائيل فى تلك الخطوة تهدئة أمنية ممتدة، تعتبرها حماس إنجازا مهما. فلطالما عكفت السلطات الإسرائيلية، منذ انقلاب حماس فى غزة عام 2007، على مباشرة سياسة التمييز بين الضفة والقطاع. فعلاوة على تقليص إصدار تصاريح العمل للغزيين، لا تتورع عن حرمانهم من امتيازات عديدة تمنحها لنظرائهم من قاطنى الضفة الغربية.
غير بعيد، ترصد دوائر إسرائيلية تحركا، حمساويا، لتأجيج التصعيد ضد الاحتلال فى الضفة الغربية، بقصد إضعاف سلطة فتح، واستقطاب فلسطينيى الضفة، عبر إشعال جيوب الفوضى فى مخيماتها، مستغلة عجز رام الله، عن بسط السيطرة على تلك الجيوب. وينبعث ذلك التصور الإسرائيلى، من تفاقم مزعج فى استهداف مواقع إسرائيلية داخل الضفة، منذ بداية العام 2022، مقارنة بأعوام سالفة.
من جانبها، اعتبرت صحيفة «يديعوت أحرونوت»، ذلك المسعى الحمساوى، صدى لسياسة التمييز، التى ينتهجها الاحتلال ضد القطاع، منذ سيطرة حماس عليه عام 2007. لكن مراقبين غربيين يرون الأمر امتدادا لاستراتيجية إسرائيل، الرامية إلى تقويض فتح سياسيا، وتحييد حماس عسكريا، توطئة للإجهاز على وحدة فصائل المقاومة المسلحة.
فى مسعى منها لاستغلال اضطراب حماس وتدهور القطاع، عمدت إسرائيل إلى إتاحة تسهيلات إضافية لغزة، عقب وقف عدوانها الأخير عليه. حيث سمحت بدخول شاحنات الوقود لإعادة تشغيل محطة توليد الكهرباء الوحيدة بالقطاع. كما فتحت معبر إيريز، لدخول العمال الغزيين إلى إسرائيل، والذين تعتزم حكومة لابيد، زيادة التصاريح الممنوحة لهم، تدريجيا، إلى 20 ألفا، خلال المقبل من الأيام. وبعد يومين من دخول اتفاق وقف إطلاق النار الأخير حيز التنفيذ، أعلنت إسرائيل السماح للفلسطينيين من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، بالسفر جوا عبر مطار رامون، الذى سيبدأ العمل أواخر الشهر الجارى. وهى الخطوات التى اعتبرتها وسائل إعلام عبرية، مكافأة إسرائيلية لحماس، لقاء عزوفها، للمرة الثانية على التوالى، عن مشاركة حركة الجهاد الإسلامى، فى مجابهة العدوان الإسرائيلى.
تأتى هكذا تحركات من قبل، حكومة لابيد، ضمن سياق مخططها لاستثمار العدوان الأخير على غزة، بغية احتواء حركة حماس وترويضها. فعندما كان وزيرا للخارجية، طرح لابيد، عام2021، استراتيجية «الاقتصاد مقابل الأمن». يبتغى بها إعادة التأهيل الإنسانى للقطاع، عبر النهوض ببنيته التحتية. مع بحث إمكانية إنشاء جزيرة اصطناعية أمام شواطئ غزة، تتيح بناء ميناء تجارى، توطئة لاستقطاب استثمارات دولية، وإقامة مشاريع تنموية، تساهم فيها إسرائيل، ومصر، والسلطة الفلسطينية. على أن تتوقف حركة حماس، فى المقابل، عن استهداف المناطق الإسرائيلية، كما تقبل بصفقة ناجزة لتبادل الأسرى مع سلطات الاحتلال. وكأن حكومة لابيد، تراهن على أن يفضى التحسن التدريجى فى الأحوال المعيشية لسكان القطاع، إلى ضمان هدوء طويل الأمد بالجنوب الإسرائيلى. فبحكم مسئوليتها عن إدارة غزة، ستضطر، حماس، إلى مهادنة إسرائيل، رهبا من تداعيات تعاظم معاناة قاطنى القطاع، ورغبا فى استبقاء هيمنتها عليه.