تناور مسارك والطرق تستدعيك وكذلك صوت قادم من أعماقك بأن عليك محاولة المشى أكثر فى المدن المزدحمة والأوقات مكثفة البرامج.. تعلم أن الأرصفة هى مساحات للمشاة وللبشر على اختلافاتهم..
***
يبدأ صباحك الخريفى بتلك المناورة / المغامرة فأنت تدرك مثل الكثيرين بأن المشى أصبح من أكثر المهمات صعوبة فى كثير من مدن العرب وأن المتناقضات فى ذلك مثيرة حد الضحك.. فهناك مدن بأرصفة فاخرة ودون مشاة لأن الجميع لا يعرف إلا السيارات كوسيلة، وعلى المنعطف الآخر مدن تتراص بها الأجساد حد الاختناق فى الفضاء الطلق وتضيق بها الأرصفة بل هى فى تضاؤل أو انقراض متزايد..
***
تأخذك مغامرتك الصباحية فى مسارات عدة تناور بين أرصفة تسلقتها العربات أو محال القهوة أو حتى زحفت عليها محال الألبسة؛ فرصت القمصان والملابس الداخلية مكان المساحة المحددة للمواطنين الذين لا يملكون سوى المشى ليس للتريض ولكن كوسيلة مواصلات لا بديل لها فى زمن شح الموارد أو انخفاضها المتزايد وغلاء المواصلات أو ندرتها..
***
تبتسم وكأنك قد وجدت ضالتك فترحل من الرصيف على اليمين إلى الجهة الأخرى من الشارع؛ لأنه لا يزال متاحا دون عربات أو دراجات نارية، وهناك تعرف أن عليك أن تسلط نظرك بشكل مستمر على الأرض؛ فيسير المارة وأعينهم مسمرة خوفا من فضلات الكلاب وغيرها عندما تحولت الأرصفة إلى حمامات عامة للحيوانات وكثيرا أيضا للبشر!!!
***
تخنقك الأرصفة الضيقة فترحل إلى الناحية الأخرى؛ فالمناورة لا تزال فى أولها وهناك تصطدم بحاويات القمامة التى لفظت ما فى بطنها فأصبح الرصيف هو الحاوية أو اختلط الأمر بين الاثنين.. تقف حائرا وكأن ذاك الصوت القادم من التاريخ يناديك «البحر من أمامك والعدو من خلفك» إلا إنه وفى حالة مغامرتك هذه هو القمامة وفضلات الحيوانات والسيارات التى حولت الأرصفة إلى مواقف لها أو الشارع، حيث سائقو العربات المنتشون بسياراتهم الفخمة والباهظة الثمن كل شىء يحملونه كذلك غالى الثمن ومبهر إلا أخلاقهم فيما كانوا يرددون علينا: إنما الأمم الأخلاق......إلخ
***
تستمر مغامرتك فترفض الرضوخ لمنطق إلا منطقا فى الطرقات، وأن يسلب حقك فى رصيف كما هو حال الكون؛ فقد تنازلت عن حقوقك الأخرى كاملة إلا هذا فهو ما تبقى لك ربما لتدرك أن الفضاء العام حق، والحدائق العامة حق، والمشى على الشاطئ حق، والطرقات المعبدة حق، وكلها بمجملها مسئولية على الدول أو الحكومات سمها ما تشاء، لم تعد منشغلة إلا بمن يختلس أكثر ومن يسرق أكثر ومن يناوره على ميزانيات مهترئة أصلا!!!
***
تجازف بأن تنزل عن الرصيف وأنت مدرك أنه بما أن الرصيف أصبح موقفا للسيارات فربما الشارع يصبح مسارا للمشاة.. لا تستمر نشوتك طويلا فما هى سوى لحظات وتنقذ نفسك عند آخر لحظة قبل أن تسرق حياتك أو بعضها من قبل أحدهم أو إحداهن.. تتوقف بعض الشىء تتحسس أطرافك كلها ثم باقى الجسد تلملم نفسك، وقبل انتهاء اللحظة يأتى صوت قادم من تلك العربة الفاخرة يردد عليك ألفاظا لم تسمعها إلا فى الأفلام الهابطة القادمة من قاع المجتمع وعنه أو كما يتصوره بعض الباحثين عن الإثارة والربح السريع بتشويه صور متعددة لمجتمعاتنا المتراصة بعضها جنب بعض ولكل منها سمات وخصائص..
***
لم يتبق على مشوارك الكثير تهنئ نفسك بقرب الوصول من هدفك، فهذه معركة بأهداف كما هى حال الحروب !!!! وفجأة تسقط عليك قطرات، قطرات من ماء متسخ ربما بوسخ المبانى الرمادية أو البيئة شديدة التلوث.. تنظر إلى بلوزتك الناصعة البياض فتجدها قد اتسخت ببقع رمادية.. تقف لحظات ثم تكمل مقنعا نفسك بأن الحقوق لا تعطى بل تؤخذ بالقوة!!
***
تأخذ نفسا عميقا وتبتسم فينظر الواقفون عند مدخل المقهى بشديد الاستغراب للابتسامة ربما أو ربما لمظهرك المشوه.. لقد أنهيت مشوارك كاملا، متعافٍ دون خسائر أو أضرار ربما إلا اتساخ البلوزة وكثير من «حرق الأعصاب والدم»..
***
تدرك أن الأرصفة العربية هى الأخرى غير صالحة للحياة أو أنها حق آخر قد انتهكته الحكومات ولم يبقى لك سوى النضال أو الرحيل!!! يقول ذاك الصديق الغائب منذ أكثر من عشرين عاما لن أعود حتى تكون هناك أرصفة تحترم آدميتى وآدمية أبنائى، فالدول لا تبنى بالمقاهى الفاخرة ومراكز التسوق الواسعة والمطاعم بل بالأرصفة ووسائل المواصلات واحترام حق الإنسان فى المشى دون إصابات على تنوعها واختلافها وأضرار هى الأخرى لا تساهم إلا فى انتهاك ما تبقى له أو لها من كرامة..