رجل واجه هدر الطاقات

سيد محمود
سيد محمود

آخر تحديث: الثلاثاء 15 أكتوبر 2024 - 6:45 م بتوقيت القاهرة

هناك فئة من الناس تؤدى دورها فى صمت وشعارها هو الآية الكريمة: «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ، وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض».

 وأضع من بين هؤلاء المفكر وعالم النفس اللبنانى الدكتور مصطفى حجازى الذى أحسبه من أكثر علماء النفس العرب إيمانا بدور المثقف فى مواجهة كل صور التخلف الاجتماعى.

ولعل حجازى الذى رحل قبل عدة أيام هو الاسم الذى يرِد فى بالى مباشرة بعد اسم الدكتور مصطفى سويف الذى يعد من رواد هذا العلم إضافة إلى أسماء أخرى أبرزها الدكتور مصطفى صفوان صاحب الترجمة الرائعة لكتاب (العبودية المختارة) ومؤلف الكتاب المهم (لماذا العرب ليسوا أحرارا).

هناك سمة مشتركة تجمع بين هؤلاء على تنوع الاختصاصات تتمثل فى الحرص على تفسير أسباب تراجع المجتمعات العربية لكن تبقى تجربة مصطفى حجازى هى الأكثر شعبية من بين تلك التجارب، فقد تداول القراء من غير المتخصصين مؤلفاته والكثير منها أعيدت طباعته عشرات المرات وقد أخبرنى شخصيا قبل 17 عاما فى مقابلة صحفية معه أن كتابه الأشهر (التخلف الاجتماعى، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور) زادت طبعاته عن 35 طبعة، كما اقترب كتابه (سيكولوجية الإنسان المهدور) من بلوغ نفس الرقم وهى ظاهرة فريدة فى عالم النشر.

وعلى اتساع مشاركاته فى المؤتمرات العلمية وعمله الدءوب الذى لم ينقطع فى مجال التدريس والترجمة يظل لكتابه (سيكولوجية الإنسان المقهور) الفضل الأهم فى تعريف الناس به.

وقع الكتاب فى يدى خلال سنوات دراستى الجامعية بكلية الآداب قبل 30 عاما بسبب المرحوم حافظ أبو سعدة الرئيس السابق للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان والمحامى المعروف والذى كان يكبرنا بعدة سنوات فى الجامعة التى عاد إليها بعد فترة سجن اتهم فيها بعضوية تنظيم ناصرى مسلح!! وهى تهمة لا تزال مضحكة إلى اليوم.

قرأ حافظ الكتاب فى السجن وقال إنه ساعده كثيرا على التعامل مع الوقت وفهم البنى الاجتماعية والنفسية لصور القهر بداخله، لذلك كانت قصته مغرية لنا.

ورغم أننا كنا بعيدين كل البعد عن الانتماء للتيار الناصرى الذى كان أبو سعدة يمثله فإن صداقتنا آنذاك كانت تستوعب تلك الاختلافات الساذجة على سخونتها، هذا الكتاب بالذات تنقل بين أيدى الجميع وحولنا إلى أطباء ومرضى، كما ساورتنا الكثير من الشكوك فى سلوكيات المحيطين بنا.

ومن أجمل المصادفات أننى تعرفت على الدكتور حجازى حين التقيته قبل 18 عاما بصحبة الراحل العزيز الدكتور شاكر عبد الحميد وهو عالم من نفس الصنف الإنسانى الفريد ولم أستغرب أن بينهما صداقة نادرة وتقدير علمى متبادل اتسع لحوارات بالغة التشويق كشفت دائما روحه المرحة.

وضع حجازى يده على كثير من الأمور التى كان بإمكانها أن تساعد كثيرا فى بناء سياسات جديدة فى علاقة السلطة بالمواطنين وبلوغ المعنى الحقيقى للتحرر، فقد لاحظ أن الإنسان المقهور فى المجتمع المتخلف يحس بالغربة فى بلده، كما يحس بأنه لا يملك شيئًا، بما فى المرافق العامة التى يرى أنها ملك للسلطة، وليست متاحة لتسهيل حياته .

 آمن حجازى أنه لا يُمْكِنُ للرجل أن يتحرر إلا بتحرر المرأة، ولا يمكن للمجتمع أن يرتقى إلا بتحرر وارتقاء أكثر فئاته غُبنًا، كما لاحظ إن الهدر له العديد من الصور، فقد يبدأ من هدر الدم إلى هدر الوقت مرورا بهدر الفكر والوعى والإبداع، لكنه يظل أكثر خطورة من القهر، فبينما يعنى القهر مثلاً اعترافا بكيان الآخر، وحتى إن كان اعترافا مشروطا بإخضاع الآخر ولكن الهدر يرتب «سَحبا للاعتراف أصلاً بقيمة الكيان أو الطاقات أو الوعى أو المكانة».

 انظر حولك وستجد أن ما يقوله هو أصل الداء فى مجتمعاتنا؛ فالهدر كما قال «أوسع مدى كما أنه يتفاوت من حيث الشدة ما بين هدر الدم واستباحة حياة الآخر باعتباره لا شىء، وبالتالى عديم القيمة والحصانة».

كما يتسع نطاق الهدر لكى يشمل هدر الفكر وهدر الطاقات وحقوق المكانة والمواطنة لكن ما يقوله الكتاب أن الهدر مهما اشتد ليس قدرا مفروضا بل لابد من التحرك لوقفه من خلال التمكين عبر تحرير الناس من كل صور الحرمان خصوصا الحرمان من الحرية ومن المعرفة، حتى يتمكن الإنسان من السيطرة على زمام مصيره، وصولا إلى صناعة هذا المصير.

مات حجازى وربما كانت صور الحرب فى بلاده هى آخر ما رآه، والأكيد أن الوحشية الإسرائيلية التى تحاصرنا ليست إلا صورة من صور الإذلال والقهر لكن العرب تعاملوا معها فى المقابل بكثير من صور الهدر وأدواته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved