انطباعات الحب المعتق بماء النيل
خولة مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 15 نوفمبر 2011 - 9:15 ص
بتوقيت القاهرة
نسمة صباح قاهرية خريفية.. شىء من الهدوء النادر فى لحظات الأيام المصرية.. الشمس لاتزال تتثاءب خلف السحب وفيروز تردد من الراديو «صباح ومسا.. شى ما بيتنسى».. لاتزال رائحة القهوة ومذاقها عالقين لا شىء يوازى صباح بنشوة القهوة.. القاهرة فى الصباح هى الأجمل لا تضاهيها إلا لحظات الليل المتأخر عندما يسكن الكون من حولها فتسترجع الكثير من بريق الماضى وشبابه وجماله حينما ترتسم على وجه النيل ملامح تلك القاهرة التى كانت!
لحظات ونستقر فى حضن كوبرى قصر النيل حيث يختلف الصباح عن الظهر عن المساء أو الليل.. مع توغل الشمس فى اليوم يستقبل هذا الكوبرى نماذج مختلفة من البشر. المهرولين إلى أعمالهم أو الهاربين منها أو من المدرسة، البائعين الجوالين هنا الترمس وهناك أباريق الشاى والمرطبات، شباب وأطفال يقفون لالتقاط الصور، حفلة زفاف على ضفاف النيل، بعض الصبية يرسلون الابتسامات الواسعة لعدسة الكاميرا وهم يقفون ملاصقين لأحد أسدين هذا الكوبرى.
أما الليل فهو ستر العاشقين.. كم هو الحب مختلفا من فوق كوبرى قصر النيل.. شىء من الرومانسية النادرة فى زمن أصبح فيه الحب موضة قديمة! أو ربما شىء من «رجس الشيطان» فيما يكفرون هم فى الحب والعشاق يبقى كوبرى قصر النيل الملجأ والملاذ الأخير لمن يهوى ويعشق.. وكأنه يخبئهم من الأعين المتربصة..
لم تتوقف لحظات العشق على الكوبرى.. لم تتقدم بقدم هذا الجسر أو المدينة التى يسكنها.. وكأنه والحب مترادفان.. شىء ما أضافه قصر النيل له.. حين فتح أذرعه تستقبل العشاق صباح ومسا كما تقول فيروز!! وفى ذلك الصباح الخريفى اصطفوا هناك قبل أن تفتح المدينة أبوابها أمام القادمين.. كانوا اثنين.. اثنين.. معظمهم فى جيل المراحل التعليمية الأولى.. فتيات وفتيان يبدأون نهاراتهم بفعل الحب العذرى الأول.. الأيدى فى الايدى والأعين لا ترى إلا المعشوق للعاشق.. بعضهم يبدو وكأنه انغمس فى فعل العشق العفيف حتى اختفت المعالم من حوله.. لا صوت ولا ضوء هو صمت الحبيب للحبيب.. لغة واحدة وحدتهم فوق قصر النيل هى تلك البعيدة عن الأحرف الأبجدية، هى لغة الكون الأولى والأخيرة، هى التى ليست بحاجة إلى مترجم أو معجم للغات.. هى بكل أحرف اللغات نفسها.. الزمن على قصر النيل لم يمض سريعا لم يغير نفسه، لم يستبدل جلده، لم تتسلل له أنماط الحب الحديثة المتلونة والمتغيرة تلك التى تجرى حسابات دقيقة قبل أن تفتح قلبها أو توصد أبوابه، الحب عن طريق الآلة الحاسبة أو الزواج عن طريق شبكة الانترنت!!
وكأنك وأنت تسير فوق قصر النيل تعود إلى الزمن الأبيض أو الماضى الجميل.. ربما لأن ذاكراته أقوى من تجاعيد الزمن، ربما؟
أو لأن جسر التنهدات هذا لم ينس كم فتاة أو صبى قضوا الساعات ذهابا وإيابا لأنه لا ملجأ يحضن حبهم سواه.. كم فتاة وفقت هنا ترسل النظرات بعيدا تبحث بين صفحات ماء النيل عن صورة لحبيب.. ذاك زمن آخر يبدو شديد التوغل فى التاريخ وأيضا فى الذاكرة.. كلما نفضت التراب عن ذاكرة هذا الجسر كلما فاضت هى بكثير من العشق المنقوع فى ماء الورد..
لكوبرى قصر النيل ذاكرة خاصة لا تحملها أى من الكبارى الأخرى المستلقية بانشداد كبير فوق مياه النيل.. كلها تحمل خليطا من الذاكرة وتبقى ذاكرته هو المختلفة والخاصة جدا، ذاكرة جماعية لجيل من الشباب.. وفيها كثير من تفاصيل زمن بل أزمان غلفها الحب مرارا والعشق مرات! على أرصفته لا تزال عفة الحب الأول والخجل المتلاصق به.. لاتزال تحمر خدود الفتيات ويتلعثم الصبيان فى أحرفهم.. فوق أعمدته أحرف قديمة للاسم الأول له ولها.. أحرف مطرزة بالدموع معطرة برائحة الفل.. وعلى جوانبه بقايا وشم لعقد من الياسمين كم عاشقا أهداه لمعشوقته الأولى.. وأوراق ورد بلدى وشى كان هنا.. ربما هو نفسه الذى دفع هؤلاء المحبين للاستجابة لندائه الصباحى وافتتاح أيامهم بالحب فى حضن الذكريات المعتقة بماء النيل.