الصدمة والرعب
محمد عبدالمنعم الشاذلي
آخر تحديث:
الأربعاء 15 نوفمبر 2023 - 8:35 م
بتوقيت القاهرة
تلقيت شاكرا من زميل أحمل له قدرا كبيرا من التقدير والاحترام مقالا كتبه الأكاديمى الأمريكى الشهيرJeffrey D. Sachs، وهو أستاذ بجامعة كولومبيا الأمريكية انتقل إليها فى عام 2022 بعد سنين من العمل فى جامعة هارفارد التى تخرج منها وحصل منها على شهادة الدكتوراه. ويعتبر الدكتور ساكس من القامات الأكاديمية والاقتصادية العالمية فى الولايات المتحدة بل فى العالم، وله كتب ومؤلفات عديدة حققت مبيعات عالية منها، نهاية الفقر the end of poverty وعصر التنمية المستدامة the age of sustainable development، وعمل مستشارا للأمين العام للأمم المتحدة واستعان به الرئيس الروسى بوريس يلتسن لتحويل اقتصاد روسيا إلى الرأسمالية بعد سقوط الاتحاد السوفيتى واستعانت به دولة الإمارات للترويج لفكرة وزارة السعادة!
عندما يكتب رجل بهذه الخلفية وهذا الوزن فعلينا أن نقرأ ما يكتبه ونحلله وندرك معناه. وجدت عنوان مقال الدكتور ساكس صادما، إذ يقول: «فرصة إسرائيل لتحويل المذبحة إلى سلام!»، عنوان مستفز ويزداد الاستفزاز مع الاستمرار فى قراءة المقال لنجد أن حرص الكاتب هو تجنيب إسرائيل ردود الفعل السلبية نتيجة لممارستها البربرية وتراجع التأييد الدولى لها وتخلى أصدقائها عنها وليس تعاطفا مع الضحايا ونفورا من الدم المسكوب. ولعل أكثر ما يغضبنى من هذا المقال هو تصور الكاتب أنه بعد كل ما ارتكبته إسرائيل من جرائم فإنها يمكنها أن تحول ذلك إلى سلام دون أن يدرى أن ما حدث فى غزة قتل السلام ليس فى فلسطين فحسب بل مع كل العرب الأحرار، وزيادة كراهية ونفورا لها وكل ما تمثله.
ولعل من تابع أعمال ساكس لا يتعجب لطرحه، فهو صاحب نظرية العلاج بالصدمة shock therapy وقوله عن الجنرال بينوشيه، الذى استولى على الحكم فى تشيلى وقتل الرئيس المنتخب سلفادور أليندى وارتكب فظائع همجية فى حق شعبه مدعوما من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، إنه ديكتاتور لكنه يمثل آمال الطبقة الوسطى وبالتالى فإن فظائعه أيقظت الشعب وأدت إلى انتعاش اقتصاد تشيلى وتعافيه!
• • •
ينبع مقال الدكتور ساكس من قناعة فى الفكر العسكرى الأمريكى أطلقوا عليه shock and awe أو الصدمة والرعب! صاغه فى عام 1996 الباحثان فى وزارة الدفاع الأمريكية Harlan Kenneth Ullman وJames p. Wade، ويقوم على توجيه ضربة سريعة ساحقة على العدو تفاجئه وتصيبه بالرعب وتحطم إرادته وتفقده الرغبة فى المقاومة. وقد بنيت هذه النظرية على التجربة العملية التى تم تنفيذها خلال العملية Desert Storm فى يناير 1991 التى دمرت فيها الولايات المتحدة قوات صدام حسين واستخدمت خلالها فعلا تعبير «الصدمة والرعب»، إلا أن عاصفة الصحراء لم تكن النموذج الأول للصدمة والرعب فسبقها فى الحرب العالمية الثانية القصف المكثف للمدن الألمانية منذ عام 1944 بعد أن فقدت ألمانيا دفاعها الجوى، وأصبحت سماؤها مفتوحة فدك الطيران الأمريكى مدنها الكبرى حتى استسلمت دون قيد أو شرط.
وكان لإسقاط القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناجازاكى نفس الأثر على اليابان، ومن قبلها الغارة على طوكيو بالقنابل الحارقة فى شهر مايو التى خلفت ضحايا أكثر من القنبلتين النوويتين وكسرت إرادة اليابان وأجبرتها أيضا على الاستسلام دون قيد أو شرط. وحاولت الولايات المتحدة تكرار التجربة فى كوريا ثم فيتنام وأفغانستان مستغلة تفوقها الجوى الكاسح فى إسقاط آلاف الأطنان من القنابل عليها إلا أن إرادة شعوب هذه البلاد لم تنكسر، ولعل السبب فى ذلك أنها شعوب تحارب من أجل حريتها وكرامتها وليست شعوبا تخوض حروبا استعمارية مثل ألمانيا واليابان.
لعل هذا الفكر المتأصل فى الولايات المتحدة يمتد أعمق من الحرب العالمية الثانية بل يمتد إلى الحرب الأهلية ويسجله ما عرف بزحف الجنرال شيرمان إلى البحر Sherman’s march to the sea الذى اقتحم ولاية جورجيا وترك أثرا من الدمار والحرق والقتل، وقد ذكر المؤرخون قوله للجنرال جرانت قائد الجيش الشمالى عندما كلفه بالزحف، إذ قال سأجعل جورجيا تصرخ «I will make Georgia howl».
• • •
إسرائيل هى الامتداد التاريخى للولايات المتحدة، تُكرر قصتها قصة المستوطنين الأوروبيين الذين قتلوا السكان الأصليين واستولوا على أرضهم واحتجزوا من بقى منهم فى محمياتReservations، هى عبارة عن سجن مفتوح، كما فى غزة، تحارب بسلاحها وتعتنق فكرها العسكرى وتعتمد عليها فى حمايتها فى المحافل الدولية بحق النقد ويشارك وزير خارجيتها ورئيسها فى مجلس الحرب ضد حماس وترسل حاملات طائرات لدعمها.
جعلت هذه العلاقة الولايات المتحدة تسقط فى هوة من النفاق والمعايير المزدوجة، فالتعديل الثانى الوارد فى مدونة الحقوق Bill of rights فى الدستور الأمريكى أكد على حق المواطنين الأمريكيين فى حمل السلاح وتشكيل الميليشيات لمواجهة الحكومات الظالمة، ورغم ذلك فإنهم ينكرون على أهل غزة الثورة وحمل السلاح ضد أقصى أنواع الظلم الفاجر. يدينون هتلر على منهج «الحل النهائى» الذى وضعه لإنهاء وجود اليهود فى ألمانيا بإحراقهم فى أفران الغاز أو وضعهم فى معسكرات الاعتقال أو إجبارهم على الفرار إلى خارج البلاد، بينما تؤيد وتدعم إسرائيل وهى تطبق منهج الحل النهائى بقصف الشعب الفلسطينى بقنابل الفسفور الحارقة وقصفهم بكل أنواع الأسلحة، بل وصل الأمر إلى مطالبة وزير إسرائيلى بقصف غزة بالسلاح النووى فى حملة إرهابية مكثفة لإجبار الفلسطينيين والفلسطينيات على الفرار من أرضهم.
تقيم الولايات المتحدة متحفا للهولوكوست وتحاكم من يشكك فى وقوعه وتهمل تماما النكبة ولعلها تحاكم من يروج لها، كما أنتجت هوليوود عشرات الأفلام عن الطفلة آنا فرانك لكنها تعتم تماما على محمد الدرة.
دروس هامة لعلنا نعيها من الأحداث الجارية فى غزة أهمها أن إسرائيل تظل هى العدو الأول الذى يهددنا وما زال يطمع فى أرضنا سيناء وما بعدها، وأنها ستظل مدعومة من الولايات المتحدة، وأن نتعلم ألا نسلم الأخيرة 99% من الأوراق ولا حتى 10% بل نحرص على أن تظل الأوراق فى يدنا لا نسلمها لأحد وألا نعول على الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن المحكوم بإرادة الدول الكبرى. كذلك ندرك أن إسرائيل تهاجمنا مدعومة بتحالف قوى يتكون من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطى بينما نحن العرب عاجزون عن إقامة جبهة موحدة، بل نتقاتل فيما بيننا فى ليبيا والسودان واليمن وسوريا والعراق أخيرا. يجب أن ندرك فى مصر أن أمننا ومستقبلنا مرهون بقوة جيشنا فى زمن سقط فيه القانون الدولى وصارت القوة المسلحة هى الورقة الوحيدة الفعالة على الساحة الدولية، وأن الجيش القوى يحتاج إلى اقتصاد قوى وقاعدة صناعية وإنتاجية قوية.. وأخيرا فإن الورقة الإعلامية من أهم عناصر الصراع والكفيلة بفضح أكاذيب وجرائم إسرائيل وحشد الرأى العام ضدها.