‎قامُوس الغُرماء

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 15 نوفمبر 2024 - 8:40 م بتوقيت القاهرة


‎بعد فسحة عادية جمعت أفراد العائلة الصغيرة، وبعد تقييم سريع للمبلغ المصروف في مشروبات مألوفة وبعض المسليات البسيطة التي لا تشي بوفرة ولا ثراء؛ ضرب الأب كفًا بكف وهو يتخذ موقعه خلف مقود العربة ويهز رأسه أسفًا ويقول: غرمتوني ربع المرتب. ساد الصمت ولم تثر كلماته ضحكة كما يفترض؛ فالموقف الجديد صار من الجدية بمكان.
• • •
‎الغريم في قواميس اللغة العربية هو الخصم، وهو في الوقت نفسه الدائن والمدين ويعرف المعنى تبعًا للسياق، وغَرِمَ أي دفع الدين المقرر، أما الغرامة فجزاء يتم توقيعه لقاء مخالفة ما، وكثيرًا ما تُستَخدم كلمة الغارمات للدلالة على النساء اللواتي يشترين مستلزمات زواج الأولاد دون أن يملكن المقابل؛ ليتعرضن لاحقًا لعقوبة الحَبس.
• • •
‎قد يكون الغريم منافسًا شرسًا عتيدًا، لا يتزعزع عن موقفه، ولا يهن أو يتراجع مهما لاحت في الأفق علامات الهزيمة أو تبدت الأمور في غير صالحه. الغريم في محل العمل عازم على بذل الجهد للتفوق على منافسه وإظهاره ضعيفًا فاشلًا، وغريم العشق ساع للفوز ولو بذل كل نفيس غالي، ومثلهما غريم السياسة المتطلع لاقتناص الفوز بأي وسيلة تتاح أمامه، أما غريم الحرب والقتال فمستعد دومًا لأقصى درجات التضحية؛ طالمًا آمن بأن الحق في جانبه.
• • •
‎قد يقف الغرماء على قدم المساواة؛ فيتمتعون بالحقوق والواجبات ذاتها، وقد يحظى بعضهم بميزات ترفعه على الآخرين درجة؛ فإن تعلق الأمر بموقع سلطة، لاستدعى وجود قوانين صارمة وصريحة تكفل التعامل بنديَّة لا محاباة فيها. قوانين يتساوي أمامها الرئيس ومرؤوسوه، المدير وموظفوه، الشعب المحكوم وحكامه؛ وما من جدال أن علاقة الند بالند التي تكفل المسائلة والمحاسبة، بل والقدرة على توقيع الجزاء ما ثبت الخطأ؛ هي الضامن لاستباب المسيرة المستقيمة وتحقيق العدالة.
• • •
‎الغريم في الرياضة منافس عنيد، يملك مهارات مكافئة ويمثل لأقرانه تحديًا صعبًا مرهقًا، وفي مجالاتها المتباينة تعاليم وأصول وقواعد؛ لا مناص من اتباعها، يلتزم بها الكل ولا تشفع درجة الحماسة مهمًا زادت، ومهما احتدمت المنافسة؛ في التخلي عن قاعدة مستقرة أو خرق للأصول. تقضي أخلاق الرياضة على سبيل المثال بتجنب مواضع إصابة الخصم ما وُجِدت، فإن استهدفها المنافس صار فعله مُخلًا بالشرف مُشينًا، وفي الواقعة التي حاز فيها بطل الجودو المصري محمد رشوان المركز الثاني؛ مفضلًا حماية خصمه، رافضًا أي يؤذي قدمه المصابة؛ أصدق مثال. على دينه سلك رياضيون آخرون غالبهم من العدائين؛ تساموا بضمائرهم وأخلاقهم، وقرروا خسران المُقدمة في سبيل مساعدة زميل خذلته ساقاه، وسقط قبل خط النهاية، مخفقًا في تحقيق الحلم بطولة.
• • •
‎احترام القواعد والالتزام بها ينظم حلبة التنافس ويضفي عليها آيات الشرف والنبل، أما اعتماد مبدأ ماكيافيللي المخيف: "الغاية تبرر الوسيلة"؛ فقد يمثل طريقًا قصيرًا ومباشرًا لتحقيق الفوز؛ لكنه يحطم ولا شكّ أسس التحضُّر والإنسانية ويقضي عليها.
• • •
‎أكم من غرماء وخصوم حملوا لبعضهم البعض عرفانًا بفضائل الإقدام عند المواجهة والثبات عند التعثر والبأس ما تكالبت الطعنات؛ وإن تأجل اعترافهم بها لسبب أو آخر. أقر المِحتلُّ للقائد والزعيم الليبي عمر المختار بقدرته الفذة التي لا تنكر في ميدان القتال وبرباط الجأش حيال الموت، وللمقاومة الجزائرية جميلة بو حيرد بالاحتمال الفائق والصمود إزاء الإيذاء الجسدي المفجع الذي مورس عليها بهدف كسر إرادتها.
• • •
‎كلما استمتعت لقصيدة "مصر تتحدث عن نفسها" وأوليت انتباهي للبيت الذي يقول: "أمِن الحقّ أنهم يُطلقون الأُسدَ منهم وأن تُقيَّد أُسْدي؟"؛ تجدَّدت دهشتي، لا بسبب الاستغاثة من الظلم الواقع ومن اختلال فرص المساواة عند النزال؛ بل لأن الشاعر يستعير لغريمه وربما عدوه أيضًا صفات الأسد بالتساوي معه؛ أي أنه يحترمه ويقدر شجاعته ولا يستخف به كما جرت العادة أو يهون من قيمته، والحق أن الاعتراف للخصم بالندية هو في الوقت نفسه إطراء على الذات؛ فالحق أن صِغَر حجم الخصم انعكاس مباشر لضآلة من يقف أمامه والعكس صحيح، وكثيرًا ما يقال لصاحب هيبة ومكانة: ما تعملش عقلك بعقله في إشارة لغريم تافه، والقصد أن المناطحة لا يصح أن تقوم بين كبير في المقام ومتدني. أتصور لو كانت القصيدة لتكتب في يومنا هذا؛ لاختار الكاتب استعارة قبيحة تضفي على الغرماء سيماء التدني وتحقر من شؤونهم؛ فبدلًا من الأسد قد يكون الحَمَل أو تكون النعامة؛ وفي كليهما من صفات الوداعة وربما الجبن والتولي ما يُعدُّ في غالب الأحوال ذميمًا.
• • •
‎ لا يطعن الندُّ الشريفُ منافسَه في الظَّهر؛ بل ينتظر أن ينال منه حين يلتقيه وجهًا لوجه، ولإن أهدته الظروف سلاحًا حاسمًا لا يملكه الآخر؛ ألقاه وفضل أن يتساوى معه في الفرصة، وأن يقضي الأمرَ من مَوقع لا ميزة فيه وأن يثبت كفاءته وتفوقه دون مخادعة أو مساعدة من أحد. للفوز الشريف طعم مختلف وراقٍ، ولا يعد دحر الضعيف بانتصار مقبول ولو بدا هائلًا مُدويًا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved