نجيب محفوظ.. الذكرى والقيمة
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 15 ديسمبر 2018 - 12:10 ص
بتوقيت القاهرة
ليس أجمل ولا أروع من الاحتفال بذكرى ميلاد نجيب محفوظ (السابعة بعد المائة الأولى) إلا بصدور طبعات جديدة من روائعه الخالدة، لكن صدور طبعات جديدة هذه المرة ليس كمثيلاتها فى السابق؛ إنها تتجاوز فكرة مراكمة عدد الطبعات وعد النسخ؛ إنها احتفاء واحتفال ومبادرة من دار الشروق بتيسير وصول أعمال محفوظ إلى كل طالبيها والباحثين عنها، دون الإخلال بشرط الجودة والإتقان والإخراج الفنى الجمالى الذى أخذته على نفسها وشهرت به طوال نصف القرن.
طبعات جديدة من أعمال محفوظ لكن هذه المرة بقطع جديد أصغر من القطع المعتادة، وأسعار أقل بنسب تتراوح بين 25 و40% عن ثمن الطبعات القديمة؛ إنها طبعات جيب أنيقة من أعمال مختارة ومنتقاة لنجيب محفوظ (نحو 16 عنوانا دفعة أولى.. منها «بين القصرين» و«الحرافيش» و«الحب فوق هضبة الهرم» و«أصداء السيرة الذاتية»، وغيرها من روائع الأستاذ.. على أن تتلوها دفعات أخرى بحيث تغطى كامل أعمال نجيب محفوظ الـ 56»).
ويظل نجيب محفوظ (1911 ــ 2006)، شاء من شاء وأبى من أبى، أهم وأكبر أديب عربى فى العصر الحديث، فالإنجاز أكبر من أن يختزل فى عمل أو اثنين أو ثلاثة أو حتى عشرة! فما قدمه نجيب محفوظ للأدب العربى، واللغة العربية، والثقافة العربية، ليس فى مقدور أى ما كان ولا من كان أن يهدمه أو يتغافل عنه أو يلغى حضوره الراسخ كمعلم من معالم وجودنا وسط هذا العالم المضطرب.
وليس هناك خلاف ــ فيما أظن ــ على أن نجيب محفوظ من أهم كتاب الرواية فى تاريخها الإنسانى كله، خياراته الإنسانية والفكرية والأدبية كانت واضحة كالشمس، فقد تبنى كل القيم التى من شأنها الارتقاء بالإنسان، وتحقيق حلمه فى العدالة والحرية؛ وهما قيمتا القيم فى أدبه جميعا والنواة الصلبة التى انبنى عليها وتفرع منها مشروعه الإبداعى بكامله.
وهو المؤصل الأول لفن الرواية فى الثقافة العربية، والذى استطاع بموهبته وعبقريته ودأبه، أن يستوعب تطوراتها الجمالية، وانتقالاتها الفنية الكبرى ــ فى الثقافة الغربية التى استغرقت قرابة القرنين ــ فى أقل من نصف القرن، وأن يبدع روائع وأعمالا تضاهى بل تتفوق على كثير من الروايات الأوروبية والأمريكية بل فى العالم كله.
وإن كان أنكر نجيب محفوظ منكرون، وتعرض فى حياته، وبعد مماته، لحملات همجية بغية التخلص منه، وتشويه إبداعه وتقليص حضوره، والعمل على محو أثره فى مواجهة التيارات الظلامية والتكفيرية، والتى سعت يوما ما للتخلص من حياته، وكان شيخا فى الثالثة والثمانين من عمره! فإن اللافت هو هذا الإقبال الكبير على كتبه وأعماله من أجيال صاعدة تتراوح سنها بين الثانية عشرة والعشرين؛ يحدوها أمل وحماس كبير وشغف رائع فى التعرف على تراث عميد الرواية العربية، وإعادة اكتشافه، وقراءته من جديد بعين شابة متوثبة ووعى مختلف وأدوات أتاحها لهم عصر ثورة الاتصالات والمعلومات والمعرفة لم تكن متاحة لسابقيهم أبدا.
ولعل هذا من بين أمور أخرى تجعلنى حريصا ومداوما على إحياء أى ذكرى تتصل بنجيب محفوظ والاحتفاء بها (ذكرى ميلاده، ذكرى حصوله على نوبل، ذكرى وفاته) لا من باب الشكليات الفارغة أو ملء فراغ ليس لدينا رفاهية ملئه! إنما من باب تجديد الاعتراف بالقيمة وإحيائها والتذكير بها، ونشرها بين قطاعات ودوائر من الناشئة والشباب تترى فى أمواج كالبحر كل ثلاث أو خمس سنوات.. من حقهم علينا أن يعرفوا أن منهم ومن بينهم؛ ينتمى إلى لغتهم وثقافتهم، قد صار إبداعه تراثا إنسانيا عالميا خالدا ومن يعرف فقد يكون من بينهم من يحصل على نوبل أخرى!
أنا فعلا سعيد جدا جدا بهذه الخطوة، وأعتبرها نواة لمبادرات أخرى رائعة لنشر إبداع أستاذنا الجليل، ومبدعنا الأكبر نجيب محفوظ عليه رحمة الله..
«كلمتين وبس!»: «ثم سألته: من هم يا أستاذ المسوخ، ومن هم مسوخ المسوخ، ومن هو الوحش؟
فأجابنى بجفاء: المسوخ هم الجهلة وتجدهم فى كل موقع لا بقاء لهم إلا بالقوة، ومسوخ المسوخ أتباعهم، وهم أجهل منهم، ولكنهم أكبر دهاء وانتهازية. أما الوحش فهو الجهل»..
(من قصة «المسخ والوحش» لـ نجيب محفوظ)