المشاركة المجتمعية والحماية الاجتماعية فى ظل حروب المنطقة العربية
محمد حاموش
آخر تحديث:
الأحد 15 ديسمبر 2024 - 7:55 م
بتوقيت القاهرة
تشهد العديد من الدول العربية اليوم صراعات عسكرية مسلحة، لا سيما فلسطين التى تشهد عدوانا مستمرا ومتزايدا من الاحتلال الإسرائيلى سواء فى الحرب التى يشنها على قطاع غزة أو العمليات العسكرية المتفرقة التى يقوم بها فى الضفة الغربية والاعتداءات المستمرة من المستوطنين فى الضفة والداخل المحتل، ولبنان الذى يشهد تدميرا ممنهجا لأشكال الحياة والعمران فى جنوبه لا سيما على الحدود مع فلسطين المحتلة، والسودان الذى يشهد اقتتالا داخليا بين أطراف الانقلاب العسكرى.
فى ظل هذه التحديات، نشهد تراجعا للدولة وتراجعا لقدرتها على تلبية متطلبات واحتياجات الأفراد بفعل تأثيرات الصراعات التى تؤدى إلى إضعاف البنى التحتية والاجتماعية والقدرات المالية للدول. هذه العوامل تضاف إلى نهج مستمر أرسته النيوليبرالية يؤدى إلى تراجع الدولة أصلا عن مسئولياتها الاجتماعية وتغير أشكال أنظمة الحماية الاجتماعية بما يتوافق مع متطلبات السوق ويخفف الضغط على أصحاب رءوس الأموال والمستثمرين.
• • •
يشهد لبنان تحدّيات اقتصادية واجتماعية لم تبدأ بالأزمة الاقتصادية فى العام 2019، ثم ما لحقها من أزمات وتحدّيات. أدى ذلك إلى خلق فجوة بين الاحتياجات الشعبية والخدمات المقدّمة من الحكومة، وأدى إلى ترويج المنظمات الدولية للمنظمات غير الحكومية كبديل أكثر كفاءة وشفافية من الدولة.
هذا الواقع يضع الدولة، وتحديدا فى ما يتعلق بمسئولياتها تجاه المجتمع والطبقات الأضعف موضع السؤال، حيث إن التراجع الممنهج فى تحمّل المسئوليات الاجتماعية يضعف ثقة المجتمع بقدرة الدولة على التصدى لهذه المسئوليات، أو فى بعض الأحيان يلغى هذه المسئولية من المفهوم الشعبى لصالح السعى نحو تحصيل الخدمات الأساسية والحماية من مصادر أخرى، كما يؤدى إلى تغييب قضايا الحماية الاجتماعية والحقوق لصالح الحماية الفئوية والزبائنية، ويؤدى أيضا إلى تراجع الدور الاجتماعى فى المساءلة وإيمانه بأهمية المشاركة فى صناعة القرار لصالح الولاءات الحزبية أو الطائفية.
يطرح هذا الواقع تحديات كبيرة على العاملين فى مجال السياسات العامة، فإلى جانب التحديات الأساسية الكامنة فى ترسيخ مفاهيم الحقوق والعدالة الاجتماعية فى قوانين دولهم وتفعيلها، نواجه تراجعًا فى مكانة هذه المطالب فى الوجدان الشعبى ما يؤدى إلى خسارة الرافعة الأساسية لهذه المطالب والحركات. ويؤدى فى بعض الأحيان إلى إحداث شرخ بين عامّة المواطنين والعاملين فى مجال الحقوق والسياسات لا سيما مع صعود دور المنظمات غير الحكومية التى شكلت دور المجتمع المدنى كمقدّم للخدمات الإغاثية رديف للدّولة، مستفيدة من زيادة تدفق التمويلات فى فترات الأزمات.
• • •
يتطرّق دليل الحماية الاجتماعية، وهو دليل حول قضايا الحماية الاجتماعية فى المنطقة العربية، من إعداد منتدى البدائل العربى للدراسات، إلى المشاركة المجتمعية فى سياسات الحماية الاجتماعية بوصفها جوهر الديمقراطية إلا أنها فى منطقتنا العربية ظلت مشاركة شكلية لتبييض الأنظمة التسلطية وواجهت تحديات مختلفة بحسب السياقات المختلفة لهذه الدول. ويدعو الدليل إلى ضرورة العمل على إعادة تشكيل مفهوم المشاركة المجتمعية انطلاقًا من الغايات، حينئذ لا تنحصر المشاركة المجتمعية بدورها فى تكريس الديمقراطية بل تمثل فعلا دفاعيا من أجل الحفاظ على الحقوق والمبادئ التى تحفظ كرامة الإنسان، وبالتالى لا تنحصر الدعوة للمشاركة المجتمعية بالدعوة للمشاركة فى صناعة القرار بل تصبح دعوة لرفض الواقع السياسى وتغييره.
هنا تظهر الصعوبة للباحثين والباحثات العاملين على تحديد الاحتياجات المحلية التى تستلزم العمل الميدانى، ففى بعض الأحيان نجد الفئة المستهدفة أكثر إلمامًا وتقبّلا لطبيعة العمل البحثى، وأكثر تفهّما لأهميّته مما ينعكس على مستوى التعاون وعلى غنى المشاركات، وفى أحيان أخرى تكون مهمة بناء الثقة مع مجتمع الدراسة مسألة معقدة وصعبة بحكم السياق الاجتماعى والسياسى الذى يتمتع به. فكلما ابتعدنا من المركز إلى الأطراف، تزداد مستويات التهميش ويزداد معها ابتعاد المواطن عن دوائر صناعة القرار بما يعكس غيابا للوعى حول آليات صناعتها وتختفى المسئولية المجتمعية تجاهها ويصبح الحديث عن المواطنة وعن قضايا الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كلاما لا يملك أى قيمة طالما لم يرتبط بأى منفعة مادية مباشرة.
هذه التحدّيات تفرض نمطًا مختلفًا من التعاطى مع العمل البحثى، نمطًا يتطلّب أن يتحلّى الباحث بمسئولية كبيرة تجاه مجتمع الدراسة وتجاه القضية التى يعمل عليها. لا شك أن ربط العمل البحثى بالمنفعة المادية يشكّل تهديدا مباشرا لجودة البيانات ومصداقيتها، كما أن غياب الوعى للدور الذى يلعبه الباحث والنظر إليه كمصدر للمنفعة سيؤدى أيضا إلى تهديد موضوعية البحث وعلاقة الباحث - موضوع البحث. وفى حين يتعين على الباحث كسب ثقة المجتمع فى جملة التحضيرات التى ينبغى عليه القيام بها قبل الشروع بالعمل الميدانى، ينبغى على الباحث أن يتحلى بحساسية عالية تجاه هذا السياق الاجتماعى والسياسى وأن يسعى لا فقط لكسب ثقة المجتمع لنفسه بل أيضا لموضوع البحث.
• • •
فى أحد الجولات الميدانية السابقة حول الحماية الاجتماعية خلال فترة الحرب فى لبنان، صادفت هذا النوع من الأسئلة حول جدوى البحث فى ظل التحديات التى نواجهها على المستوى الوطنى. عكست هذه الأسئلة غياب الثقة بالمؤسسات الرسمية والمنظمات الدولية، بالإضافة لمستوى الاتكال على التنظيمات الحزبية. إلا أن أكثر ما لفتنى هو دلالات غياب المسئولية وتراجع الثقة بالقدرة على التأثير فى هذا الواقع ما وجدته يدفعنى إلى التحضير بشكل مختلف لهذه المقابلات بما يركّز على المسئولية المجتمعية وعلى أهمية المشاركة المجتمعية فى سياسات الحماية.
فى ظل هذا الواقع المعقد، يقع على عاتق الباحثين مسئولية مضاعفة للتعامل مع التحديات المرتبطة بفقدان الثقة وتغييب المجتمع وتشويه مفاهيم الحماية الاجتماعية، بحيث يجب عليهم العمل على تحويل العمل الميدانى إلى فرصة لتعزيز وعى المجتمعات وإعادتها إلى موقع التأثير والمشاركة. بحيث يلعبون دور حلقة الوصل بين مختلف شرائح المجتمع من جهة ومنظمات المجتمع المدنى والمراكز البحثية والنشطاء السياسيين من ناحية أخرى، بما يعزز المشاركة المجتمعية ويعيد صناعة سياسات الحماية الاجتماعية إلى سياقها الأصلى: تراكم لتاريخ من النضالات الشعبية والجماهيرية، بما يضمن الحفاظ على هذه الإنجازات فى ظل التغيّرات التى تعصف بالنظام العالمى والخطر الذى يحوم حول الإنجازات التى حققتها الشعوب فى وقت تتراجع فيه الدولة وتتخلى عن مسئولياتها فى ضمان حماية الحقوق.
باحث بمنتدى البدائل العربى، بيروت