«The Post».. الصحافة فى خدمة من؟
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 16 فبراير 2018 - 10:05 م
بتوقيت القاهرة
سهرة رائعة أمضيتها الأسبوع الماضى لمشاهدة الفيلم المهم جدا، البارع جدا «The Post» للمخرج المشعوذ ستيفن سيبلبيرج، وبطولة الرائعة ميريل ستريب والعملاق توم هانكس.
نحن إزاء فيلم يطرح سؤاله المتصل مباشرة بلب التجربة الأمريكية فى تأسيس كيانها كدولة وكثقافة ترسخت على قيم الحرية والديمقراطية وحق الشعب فى أن يعرف، وحق الشعب فى أن يكون رقيبا على من يحكمونه. يطرح الفيلم السؤال بشكل آخر: «الصحافة» التى هى التجلى الأعظم للحرية التى طمح إليها المجتمع الأمريكى وخاض غمار الصعوبات كى تصبح هذه الحرية هى قيمة القيم.. هل هى فى خدمة الحكام أم المحكومين؟
هل هى الصحافة الحرة الحقيقية المسخرة كى تكون فى خدمة أفراد هذا الشعب أم عليها أن توائم وتمالئ وتداهن وتتجنب المواجهات والصدامات مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة؛ خاصة بإزاء ملفات أمن قومى شديدة الحساسية والخطورة؛ مثل قضية التدخل الأمريكى فى فيتنام؟!
عبر حوارات صيغت ببراعة ووظفت بفن، يستعرض الفيلم القصة الشهيرة لانتقال جريدة «واشنطن بوست» المحلية من مجرد صحيفة محلية محدودة الانتشار والتوزيع إلى الصحيفة الأكبر والأهم والأكثر توزيعا وانتشارا فى الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك من خلال الواقعة الشهيرة فى عام 1971 حينما انفردت صحيفة «نيويورك تايمز» بنشر تقرير سرى يدين تصرفات الإدارات الأمريكية المتعاقبة إزء الأزمة الفيتنامية وبإصرارها على حفظ ماء وجهها أمام الشعب تورطت بزج الآلاف من الجنود الأمريكيين فى حرب شعواء لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
بعدما نشرت «نيويورك تايمز» التقرير صدر قرار من المدعى العام الأمريكى بوقف النشر، لاعتبارات الأمن القومى وضغوطات هائلة مورست على ملاك الصحيفة وصناعها. إلى هنا والأمر لا يثير غرابة ولا بطولة ولا شىء؛ ستتغير الأمور دفعة واحدة عندما تتوفر نسخة من هذا التقرير الكاشف الفاضح لسياسات الإدارة الأمريكية للقائمين على صحيفة «واشنطن بوست»، وهنا تتجلى براعة وعظمة الأداء التمثيلى والإخراجى والسيناريو والحوار فى تلك المشاهد التى تجمع بين ميريل ستريب «ناشرة الصحيفة» وبين رئيس تحريرها المحترف «يقوم بدوره المذهل توم هانكس».
يمكنك أن تحلل فقط شكل العلاقة كما يجب أن تكون بين ملاك الصحف والقائمين على تحريرها؛ إذا ما توفر السياق الداعم والظروف الملائمة، بات اتخاذ القرار شجاعة ويسجل مواقف لا حسابات. ستنتصر مالكة الصحيفة لحرية النشر وتدعم رئيس تحريرها وتمثل أمام هيئة المحلفين فى المحكمة الأمريكية العليا التى تحكم بأغلبية (6ــ3) بحق الشعب فى أن يعرف، وحق الصحافة فى أن تنشر وتسجل موقفها الخالد «الصحافة يجب أن تكون فى خدمة المحكومين لا الحكام».
يستحق الفيلم أكثر من مشاهدة لبراعة الحوار المكتوب ودقة دلالاته ورسائله الموجهة؛ فضلا على اعتماد الفيلم بشكل أساسى على الحوارات الدائرة بين الأطراف المختلفة «ناشرة» صحيفة ذا واشنطن بوست المحلية، ورئيس تحريرها الصحفى المحترف «بن» وهيئة مستشاريها القانونيين والمحاسبين الماليين، وصولا إلى حوارات اجتماعات صالة التحرير والصحفيين المعاونين لرئيس التحرير.
ما عكر صفو المتعة الكاملة لتلقى الفيلم تلك الترجمة الركيكة السطحية المبتذلة المصاحبة لنسخة الفيلم فى دار العرض المصرية؛ شىء مخزٍ ومهين ودال على ما وصلنا إليه من أداء هابط وبعد عن الاحترافية وإسناد الأمر إلى غير أهله (شأن كثير مما يدور فى كل أروقة ومؤسسات حياتنا هنا والآن!) من لا تسعفه إنجليزيته لمتابعة حوارات الفيلم سيقع فى لبس بين وهو يقرأ الترجمة غير الدقيقة لمفاهيم ومصطلحات تخص مهنة الصحافة والعاملين بها (أى مُراجع من أهل المهنة يقتطع من وقته مدة مشاهدة الفيلم كان بإمكانه تلافى كل هذا الخلط واللبس البين فى الترجمة).
مثلا، تقدم الترجمة العربية المصاحبة للفيلم لفظة «مقال» بديلا عن «مادة صحفية» بالمعنى الذى يتسق وأحداث الفيلم؛ أو استخدام كلمة «مراسل» كترجمة لمحرر صحفى محترف (محرر ديسك/ محرر صياغة أو أيا ما كان) أو استخدام «مديرة نشر» بديلا لـ «ناشرة الصحيفة» أو مالكتها أو صاحبة اتخاذ القرار.. إلخ. هذه مجرد أمثلة على ركاكة وضعف الترجمة التى ستذهب بما يقرب من ربع الفيلم فى التباسات غير مفهومة وغير دقيقة وغير متسقة مع المعنى العام للفيلم وأحداثه.
لكن ورغم ذلك؛ فإننا أمام فيلم مذهل بكل المقاييس؛ فيلم يكشف ويحلل ويسلط أضواء على تاريخ التجارب القريبة البعيدة؛ يومئ ويشير؛ لا يصرخ ولا يزعق؛ وهذه عظمة الفن وروعة السينما.