وفاة موظف مُتعب!
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 16 مارس 2020 - 10:00 م
بتوقيت القاهرة
منذ أيام اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعى بحادث أليم، إذ توفى شاب يعمل بأحد البنوك الكبرى تحت ضغوط العمل. إلى هنا يبدو الخبر عاديا رغم ما يشف عنه من مشاق وظائف أصحاب الياقات البيضاء، والتى وإن اختلفت طبيعتها المكتبية عن الأعمال القائمة على القوة البدنية فى الحقول والمصانع، فإنها تتشابه من حيث قسوة الظروف وتكاثر الهموم والمسئوليات على أصحابها، فى غيبة أى تقدير لطبيعة النفس البشرية من قبل المؤسسات التى يعملون لصالحها، وهى لا تختلف كذلك عن الجهاد الأصغر فى قرون الإسلام الأولى. ما جعل الخبر المتواتر أكثر إيلاما هو أن هذا الشاب كان قبل وفاته بأيام يلتمس من رئيسه فى العمل أن يسمح له بإجازة (من رصيده المستحق) لأنه يشعر بالتعب، لكن رئيسه رفض!.
***
أعادتنى تلك الواقعة إلى بداية اقتحامى سوق العمل، حيث عملت بعد تخرجى مباشرة فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ولمدة عامين تقريبا فى إحدى شركات الغاز الطبيعى الخاصة. وهى شركة عائلية كان مؤسسها يلقب بأبى الغاز الطبيعى فى مصر، وهو قامة وطنية شارك فى تأميم قناة السويس، وجسد دوره الفنان شعبان حسين فى فيلم ناصر 56. لا تتعجل أيها القارئ العزيز فليس ثمة تشابه بين ظروف العمل بتلك الشركة وظروف هذا الشاب المسكين، فقد كنت أعامل بداخلها كأحد أفراد عائلة كبيرة، لكننى كنت أتخذها محطة أولى أستكشف خلالها مستقرى فى سوق العمل، خاصة أن بكالوريوس الاقتصاد هو من الشهادات الحائرة التى لا يعمل حاملها فى وظائف نمطية، فإما أن تبتلعه البنوك فور تخرجه، أو يشق لنفسه تخصصا فى مجال رائج بعد أن يثقل مهاراته ويعزز شهادته بدراسات أخرى فى مجالات الحاسب الآلى واللغات مثلا.
وبعد أن وجدت نفسى مؤهلا للانطلاق إلى محطة جديدة ولتكن فى قطاع البترول الذى اخترته مجال تخصص مرحلى، تقدمت للعمل بأكبر شركة بترول فى العالم، وهى إحدى إبداعات «روكفلر» التى استطاعت بعد عملية اندماج شهيرة أن تصبح الأولى فى مجالها عالميا وأن تحقق أعلى إيرادات سنوية عام 2000، وكان مقرها ومازال يحتل موقعا شديد التميز على كورنيش النيل فى منطقة جاردن سيتى الراقية. المحاولة بالتقدم للعمل بالقطاع المالى بالشركة عابرة الجنسيات تلقتها الشركة بتجاوب وبدعوة لحضور مقابلة مع عدد من مديرى القطاعات الراغبة فى توظيف شباب حديثى التخرج. اجتزت المقابلة بنجاح وبعدها مقابلات ثلاث، وحجزت لنفسى مقعدا متميزا فى إدارة العقود والمشتريات. مناط تميز هذا الموقع أن مربعا بالهيكل التنظيمى للإدارة يوشك أن يفرغ بترشح شاغله الحالى لمنصب إقليمى مرموق، وأننى سوف أبقى فترة اختبار وجيزة خلف هذا المرشح لأملأ موقعه كمستشار للعقود والمشتريات خلال ستة أشهر، على الرغم من فارق السن والخبرة والذى علمت فيما بعد أننى اجتزته بنجاح بأداء لاقى تقدير الجميع، حتى أطلق على مديرى المباشر «العقاد» فى لفتة إلى إتقانى لصياغة العقود بسرعة.
***
المهم أننى قبل أن أغادر شركة الغاز العائلية إلى غير عودة التقى بى مؤسسها «أبو الغاز» الذى حاول فى البداية إثنائى عن ترك وظيفتى بشركته، ثم نصحنى بعاطفة الأب وخبرة من عالجته الحياة بخطوبها، بتوخى الحرص مما تفعله الشركات عابرة الجنسيات بموظفيها، إذ هى تستعبدهم وتضيع حقوقهم خاصة إن كانوا من دول العالم الثالث. ولأننى أحب الرجل (رحمه الله) وأعلم أنه أخلصنى النصيحة فقد توجست خيفة من تحذيراته، لكن اندفاع الشباب وحب المغامرة حملانى على سرعة الانتقال إلى موقعى الجديد، غير عابئ بقسوة ظروف العمل التى لدى من مخزون الطاقة ما يكفى للصمود أمامها. ولا أنكر أبدا أننى تعلمت خلال أشهر من العمل فى شركة البترول العالمية ما لم يتعلمه الكثيرون طوال سنوات فى غيرها، بل ما لم يتعلمه بعض العاملين بها لفترات طويلة. السبب أننى أيقظت كل حواسى كى أتلقى أكبر قدر من «المعرفة» فى أقصر وقت ممكن، وكان ذلك يستدعى أن أكون أول الحاضرين وآخر المنصرفين يوميا، حتى وضعت اسمى على عدد كبير من المشروعات فى زمن قياسى، وكان المراقب الداخلى (أمريكى الجنسية) يمر بى وبزملائى الجدد فلا يجدنى إلا أعمل على مشروع هام، وأنجز طلبات لعدد كبير من القطاعات. كل ذلك كان بمثابة تدبير ربانى صرف، إذ كيف بمن التحق بالعمل بغير واسطة (على خلاف معظم العاملين والمتدربين) أن يكون على موعد مع «التثبيت» على قوة الشركة خلال أشهر قليلة وهناك من يعمل عشر سنوات وأكثر عبر عقود التعهيد outsourcing؟!
كلمة السر كانت عقود التعهيد، فهى عقود لا تحتوى على أية إشارة إلى اسم الشركة العالمية، بل تضع الموظف فى علاقة عمل مع شركة أخرى لا تعدو أن تكون مقاول أفراد، لكنك لا تلتقى أبدا بأى من ممثلى ذلك المقاول ولا تعرف عنه شيئا، فقط تقرأ الاسم على عقد عملك واستمارة راتبك ثم تمضى إلى بيتك فى سلام. عملت فى الشركة يوميا وأحيانا خلال أيام العطلات بمتوسط 12 ساعة، أعددت خلالها إلى جانب ما سبق الإشارة إليه جميع ملفات القطاع اللازمة لأعمال المراجعة الداخلية، والتى هى أهم من مراجعة شهادة الأيزو وأكثر منها تدقيقا.
***
ولأننى لم أكن أتوقف عن تطوير نفسى، فقد لاحت لى فرصة للحصول على منحة من وزارة الاتصالات بالتعاون مع إحدى الشركات الدولية للحصول على شهادة فى تحليل النظم. ونجحت بالفعل فى جميع الاختبارات، وقُبلت للحصول على المنحة التى كان برنامج الدراسة بها مرهقا ويوميا لكنه لا يبدأ إلا من الساعة الخامسة مساء. ولأننى كنت قد اقتربت من موعد تثبيتى فقد رأى مديرى أن المنحة لا تخدم حاجة العمل، وأن رفضه لها حق مكتسب، تماما كما كان يرى أن بقائى يوميا إلى ما بعد مواعيد العمل الرسمية حق مكتسب. الرجل ومن ورائه مؤسسته كانوا يستكثرون على موظفهم الجديد جائزة «التثبيت» الكبرى التى يجب أن يقابلها بامتنان منقطع النظير، وأن يلقى نفسه فى مياه النيل لو اقتضى الأمر ذلك امتثالا لتعليمات المؤسسة. فلو تم تثبيتك تحظى على الفور بامتيازات وحقوق «آدمية» لا يحصل عليها غيرك من الغالبية غير المثبتة. القرار المنطقى إذن كما رآه مسئولو برنامج المنحة من وزارة الاتصالات، وغيرهم من الأصدقاء وزملاء العمل كان بلا شك هو الامتثال إلى أوامر المدير الذى لا يؤمن حتى بحق الموظف فى التجربة خارج قفصه المرمرى، إذ من المحتمل أن يضيق بالبرنامج بعد أيام ويرجح كفة العمل على التدريب.
لا أنسى ما قاله لى مسئول وزارة الاتصالات حينها: يا أستاذ نحن نتيح تلك البرامج لتوفير فرص عمل، وأنت الآن لديك فرصة عمل ذهبية فما حاجتك بالتطوير؟!. بالفعل كدت أركن إلى هذا الرأى لولا أن تداركنى رحمة من ربى، فرأيت نفسى فى موقع المقهور الذى لا أقبله ولم أنشأ عليه. كنت أعمل ساعات عمل طويلة بمحض إرادتى، كنت أقسو على نفسى متعجلا تحقيق ذاتى، لكن القيام بهذا ضد إرادتى هو المستحيل بعينه. تمسكت بحقى فى تطوير مهاراتى ودونه ترك العمل بكل سرور، وحتى وأنا أتركه ظن مدير الموارد البشرية أننى سوف أقاوم فأعد لى ــ ما حسبه ــ فخا لتوقيع الاستقالة بعد أن تلقيت اتصالا منه يبشرنى بأن قطاعا آخر سوف يستقبلنى ويوافق على استمرارى فى المنحة (التى هى فى وقت فراغى ولا تكلف الشركة مليما). وقعت الاستقالة دون تردد ودون الحصول على أية حقوق، واعتبرتها شهادة عتقى من الاستعباد، ومازلت إلى اليوم أدين بجانب من أى نجاح حققته فى حياتى العملية والأسرية إلى ذلك التوقيع.
لا أسرد تلك التجربة الشخصية بتفاصيلها إلا على سبيل التذكرة عزيزى القارئ، ولا تستخلص العبر إلا من مثل هذه الأحداث على فرديتها وندرة تكرارها. أعلم أن كثيرا من الناس يخضعون مضطرين لظروف عمل غير إنسانية، ولا يستطيعون منها فكاكا حرصا على لقمة العيش. لكن وحده الحريص على تطوير مهاراته باستمرار، وترك بصماته المتميزة فى كثير من مواقع العمل يملك قراره، ويكون قادرا على بسط شروطه ورسم طريقه الذى وإن كان شاقا تهون مشقته حرية الاختيار.