نشأة العصبيَّة في المجتمع اللبناني
العالم يفكر
آخر تحديث:
الثلاثاء 16 مايو 2023 - 8:35 م
بتوقيت القاهرة
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة رفيف رضا صيداوى، تناولت فيه مقتطفات من كتاب «خبز الموارنة وخبز الحياة ــ نشأة عصبيَّة وتهاويها» لعالِم الاجتماع اللّبنانى فردريك معتوق، يعرض فيه مراحل تجذر العصبية فى المجتمعات العربية خصوصا لبنان وأثر تلك العصبيات فى تعطيل الاتجاه نحو دولة مدنية ديمقراطية... نعرض من المقال ما يلى.
يأتى كتاب «خبز الموارنة وخبز الحياة ــ نشأة عصبيَّة وتهاويها» لعالِم الاجتماع اللّبنانى فردريك معتوق، الصادر حديثا عن منتدى المعارف فى بيروت، كعصارة اشتغال مؤلِّفه على موضوع العصبيّة. تكمن سمة هذا الإصدار الجديد، فى أنّه بمثابة دراسة تطبيقيّة ترصد وتتبَّع شبكة العلاقات التى سمحت بتجذر العصبيّة فى مجتمعاتنا، مُتّخِذة من لبنان فى تاريخه الحديث ومن الطائفة المارونيّة تحديدا حقلا لها.
كيف للقيَم الأبويّة وعلاقات القربى والعشيرة والطائفة والجماعة العرقيّة أن تبقى متجذّرة فى بنيان مجتمعاتنا العربيّة ومُعطِّلة لبناء الدولة الحديثة؟ وممَّ تتغذّى عصبيّاتنا العائليّة والقبليّة والعشائريّة والدينيّة والمذهبيّة هذه؟ أسئلة لطالما طرحها فردريك معتوق فى كُتبه وأبحاثه وأطروحاته، عاكفا على تفكيكها وتحليل عناصرها من منظورٍ تحليليٍّ سوسيو ــ معرفى، مُضيئا على صلابة العصبيّة وقدرتها على إعادة تأهيل نفسها إلى ما لا نهاية فى البنى المجتمعيّة التقليديّة بعامّة، والعربيّة منها بخاصّة، كما وعلى إعاقة النموّ الثقافىّ والاجتماعىّ والاقتصادىّ والاتّصالىّ والمعرفى.
لئن استند فردريك معتوق إلى مفهومِ العصبيّة الخلدونىّ الذى مضى عليه الزَّمن، ولاسيّما أنّ للعصبيّة بُعدَها القبلىّ المُعزَّز بالبداوة، ليختبرها على مجتمعاتنا الحديثة، فذلك لأنّه قرأها كمنظومةٍ فكريّةٍ حيّةٍ ومتحرّكةٍ ذات مكوّناتٍ عصبيّة يحكم قانونُ الغُلب العصبىّ فيها ويتغلَّب على العقد الاجتماعى، بما يسمح لها، أى لهذه العصبيّة، كما سبق لمعتوق أن وصفها، بتمدّدِها «الجذمورى Rhizomatic » فى مناحى الحياةِ السياسيّةِ والاجتماعيّةِ كلِّها، سواء أكانت تقليديّة أم مُستحدَثة.
هذا الكتاب الذى وصفه مؤلِّفُه بأنّه «بمثابة مونوغرافيا سوسيو ــ معرفيّة»، استند فى توثيقه إلى «الدفاتر الخمسة» المحفوظة تحت إشراف كاهن الرعيّة فى الكنائس المارونيّة (أى دفاتر العماد، والتثبيت، والزواج، والوفيّات، والإحصاء)، ولاسيّما ما يتعلّق منها بالسنوات الموافقة للحرب العالميّة الأولى، فى قريته الصغيرة «سرعل» القائمة فى وادى قاديشا، فى شمال لبنان، وفى غيرها من القرى والبلدات ذات الغالبيّة المارونيّة. وما عكسته هذه الدفاتر الخمسة، فضلا عن قيمتها التوثيقيّة فى ما يتعلّق بالتوزُّع السكّانى للموارنة وأحوالهم من الولادة إلى الموت قبل قيام الدولة بمفهومها الحديث، هو تماسُك العصائب المارونيّة والدَّور المميَّز للمؤسّسة الكنسيّة فى تأمين هذا التماسُك وإدارته، الذى جَعَلَ القناصل الأوروبيّين يشيرون منذ القرن التّاسع عشر «إلى أنّ الشعب ــ المارونى La nation ــ أى الطائفة المارونيّة ــ هى الأشدّ تماسكا وتركيبا بين الجماعات الدينيّة الموجودة فى المنطقة؛ بحيث تعدَّى هذا التماسُكُ أو هذه اللّحمةُ الروحيّةُ برعاية الكنيسة الجانب الدّينى «لتتماهى مع الاجتماعى والثقافى العامّ.
• • •
لئن كانت الطائفة الدينيّة تقوم على رابطة المقدَّس والدينى، فإنّ التضامُن بين أفرادها وجماعاتها فى الحالة المارونيّة، شكَّل وجودها المؤسِّس، بسبب تلك الرابطة الدينيّة تحديدا، وإن كانت صلة الرّحم كمصدر محبّة وتضامُن سبّاقة على الرابطة الدينيّة. غير أنّ المشكلة التى حاول د. فردريك معتوق الإضاءة عليها فى دراسته هى تحوُّل الروابط الإيجابيّة إلى أخرى سلبيّة يُحرّكها التَّنافس والسَّعى إلى المجد والسلطة، والتى تتولّد منها إشكاليّة تحوّل «المحبّة إلى عنصريّة تقوم على التمييز مع تصوُّرِ تفوُّق العنصر على من سواه لمجرّد التسلسل النَّسبى؛ فهذا ما يحوِّل القبيلة إلى قبائليّة مثلما يُحوِّل الشعب إلى شعبويّة والطائفة إلى طائفيّة والمذهب إلى مذهبيّة، أى تحوُّل الطبيعىّ إلى اصطناعى، وهو اصطناعٌ أسطورىّ يؤسِّس للعرقيّة السلبيّة وللهويّات القاتِلة ولو معنويّا» (عبداللّه الغذّامى، القبيلة والقبائليّة أو هويّات ما بعد الحداثة). فكانت البداية مع الحرب العالميّة الأولى التى تغيَّر معها مشهد المُجتمع الريفى التقليدى الصغير الساعى إلى تطوير نفسه، والذى تعمّق المؤلِّف فى توصيفه مُدعِّما إيّاه بالأرقام والإحصائيّات العائدة لتلك المرحلة: نفاد المدخّرات والمجاعة، اجتياح الجراد، الحصار البحرى الذى ضربه الحلفاء (بريطانيا، وفرنسا، وروسيا)، والحصار البرّى الذى ضربه العثمانيّون لمنعِ نقل القمح من البقاع وحوران وحلب إلى جبل لبنان.
لقد تمثّلت هذه المُعايشة الميدانيّة لموارنة «سرعل» ومحيطها، وغيرهما من المناطق اللّبنانيّة، والتى أشرك الكتابُ فيها القارئَ، فى محاولةِ الإضاءة سوسيولوجيّا، وعن قرب، على كيفيّة تحوُّل الطائفة إلى طائفيّة والمذهب إلى مذهبيّة بفضل ظروفٍ جيوسياسيّة ولّدتها الحرب العالميّة الأولى أفضت إلى تغير موازين القوى، واندحار الجيوش العثمانيّة، وتبنّى المرجعيّة المارونيّة الكبرى الانتصارَ الفرنسى، وتبنّى الفرنسيّين فى المقابل الموارنة، وتحوُّل «العصبة» المارونيّة إلى عصبيّة بعد تمأسسها فى الدولة.
فمع انتشار الأمراض الفتّاكة إبّان الحرب العالميّة الأولى (وباء الجدرى فى «سرعل» والحمّى فى «طورزا» والتيفوئيد فى غير مكان) «لم يجد الوعى التقليدى السائد من معينٍ فعلىّ موثوق فى الطبّ الشعبى ولا فى شخص الحكيم العربى عندما أزفّت ساعة الحقيقة، كما لم يجد الأهالى الدّعم المتوقَّع من البطريركيّة المارونيّة: «كانت أهوال الحرب العالميّة الأولى هائلة لدرجة أن لا هذه المؤسّسة ولا سواها من المؤسّسات المحلّيّة كانت مؤهَّلة وقادرة بما فيه الكفاية على مُكافحة آثارها على نحوٍ شامل وكامل ومُستدام»؛ ما يعنى أنّ الحرب العالميّة الأولى بقدر ما خلخلت الانتظام الاجتماعى للجماعة المارونيّة، «أظهرت للكنيسة المارونيّة أنّها متغيّر تابع، لا متغيّر مستقلّ فى اللّعبة السياسيّة الكبرى الجارية»، فى ظلّ صراع القوى الفرنسى العثمانى. فيقول معتوق: «واقعيّا، كانت البطريركيّة المارونيّة قد وقعت رغما عنها فى لعبة أُمم تفوق تصوّراتها الاستراتيجيّة الأوّليّة المبنيَّة على إدارة ناجحة لعَصَبَة محلّيّة مُسالمة تجاه الحُكم العثمانى».
• • •
تقاطُعات المحلّى والإقليمى والدولى إذا، طوال الفترة الممتدّة بين إعلان دولة لبنان الكبير فى العام 1920 ودولة الاستقلال فى العام 1943، كرّست تدعيم الطوائف ككيانات سياسيّة لها أنظمتها الخاصّة والمستقلّة، وتحوُّل الطائفة إلى طائفيّة، لأنّ الطائفيّة فى لبنان ليست، بحسب المفكِّر اللّبنانى مهدى عامل، «كيانا، وليس لها وجود أنطولوجى. إنّها علاقة سياسيّة (...) قائمة بالدّولة، بمعنى أنْ لا وجود مؤسّسيّا لها إلّا لكونها قائمة بالدولة، وتحديدا بالدولة الطائفيّة». هذه السيرورة بدأت مع نموّ «شريحة مارونيّة من أخلاف أعيان زمن الحرب العالميّة الأولى الذين قاموا بعمليّة تحضين سياسى للإرث المعنوى الذى سلّفتهم إيّاه الكنيسة المارونيّة، معبّرين على الدوام عن طاعتهم للمرجعيّة الدينيّة، لكن مع تبييتِ رغبتهم بالتفلُّت السياسى من هذه السلطة الجبريّة بغية إنشاء زعامات عائليّة سياسيّة صغيرة ومستقلّة، على شكل عُصيبيّات عشائريّة صغيرة تضمّ الأقارب فى العائلة الممتدّة والأهل والمقرّبين». لذا أضحت هذه العُصيبيّة هى الجوهر المحرِّك لكلّ المكوّنات السياسيّة الأخرى، وحالت دون أن تُسهم بدايات التحوُّل الرأسمالى الذى انطلق مع إنتاج الحرير فى منتصف القرن التاسع عشر والتطوُّر النسبىّ لعلاقات الإنتاج الرأسماليّة بعد الاستقلال لاحقا، من القضاء على الطابع التقليدىّ للعلاقات السياسيّة والاجتماعيّة وارتباطاتها الطائفيّة، والقَبليّة والعشائريّة، والمناطقيّة المَوروثة. حتّى أنّ اتّفاق الطائف فى تعديله نِظام توزيع السلطات بين الرئاسات الثلاث لم يكُن يتّجه حقيقة إلّا إلى تسويةٍ تُعيد تثبيت توازنات النّظام الطائفىّ القائِم على العصبيّات الدينيّة والعشائريّة، الذى لم يتوقّف منذ ما يربو على أكثر من مائة وخمسين عاما «عن توليد التوتّرات والمُشاحنات والصراعات، الكامنة غالبا والمتفجّرة أحيانا، مع كلّ تبدّلٍ فى التوازنات الداخليّة والخارجيّة».
فى خلاصة هذا الكتاب يوضح معتوق أنّ ما جاء فيه لا يقتصر على الموارنة، بل يشمل كلّ المكوّنات السياسيّة اللّبنانيّة الأخرى. «فالدروز والسنّة والشيعة فى لبنان يشكّلون امتدادا لهذا المنظور، إذ ما حصل لاحقا، عام 1943 ثمّ فى الخمسينيّات والسبعينيّات وحتّى اليوم، يشير بوضوح إلى تمسُّك جماعى محلّى، عنيد ومُستميت، بصيغة لبنان التقليدى كما بصيغة لبنان كدولة للعصبيّات والمُلك»، وذلك فى ظلّ تراكُب القوى العظمى على هذا البنيان العصبىّ فى البلدان التقليديّة «حيث عملت فى السابق على أورَبَة، وبعدها أمرَكة، واليوم عَولَمة، كلّ شىء فيها ما عدا ما يتعلّق بأنظمتها السياسيّة الموروثة». وكأنّ الهمّ الأساسى هو التشديد على أنّ اللّبنانى المحكوم بهابيتوس العصبيّة، بشكلَيها القبلىّ (العائلى) والدينىّ ــ المذهبى، قادر، على الرّغم من ذلك، على مواجهة هذا الوضع، لكونه ليس قَدَرا محتوما، بل واقعا يُمكن تغييره عبر تحريره من العصبيّة على نحوٍ استراتيجى، والاتّجاه نحو دولة المُواطنة المدنيّة الديمقراطيّة الحديثة.
النص الأصلي