إسرائيل وإيران وحرب الاقتصاد

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 16 يونيو 2025 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

لم يعد اشتعال الحروب فى الشرق الأوسط حدثًا استثنائيًا، لكن المواجهة المباشرة الأخيرة بين إيران وإسرائيل تمثل منعطفًا تاريخيًا لا لتعقيداتها الجيوسياسية فحسب، بل لأنها اندلعت فى لحظة حرجة يشهد فيها الاقتصاد العالمى أضعف حالاته. لقد تحولت ساحات القتال إلى شاشات التداول، حيث يتحول كل تهديد عسكرى إلى موجات صادمة تعبر عن نفسها فورا فى أسعار النفط، وتقلبات العملات، وتدفقات الاستثمار. كما تغيّرت توقعات النمو والسياسات الاقتصادية للدول بين عشية وضحاها، حتى بات إعداد موازنات عامة دقيقة أمرا شبه مستحيل.

كشف التصعيد العسكرى الإسرائيلى الأخير ضد إيران عن تحوّل جوهرى فى موازين القوة الإقليمية، حيث أظهرت الضربات الدقيقة التى استهدفت قيادات وعلماء إيرانيين بارزين، بل تمكنت من اختراق العمق الإيرانى، تفوقا استخباراتيا وتقنيا مثيرا للقلق لمختلف دول الجوار الإقليمى. هذا التحرك الإسرائيلى المنفرد لم يفضِ فقط إلى إرباك الحسابات الإيرانية، بل كشف أيضا عن هشاشة الموقف الإيرانى فى مواجهة القدرات العسكرية المتطورة التى تمتلكها تل أبيب. وعلى الرغم من أن الرد الإيرانى بالرشقات الصاروخية والمسيّرات فاق فى قوته توقعات المراقبين (حتى كتابة هذه السطور)، لكنه لم يكن مخيفا للطرف الآخر. 

وإذا كان التبادل العسكرى بين الطرفين يعد حتى الساعة ضمن حدود المواجهة المحدودة، إلا أن تداعياته الاقتصادية تجاوزت بكثير نطاق الصراع المباشر. فقد أحدث التصعيد حالة من الارتباك فى الأسواق العالمية، حيث تنامت المخاوف من اتساع رقعة الصراع، وما قد يترتب على ذلك من اضطرابات فى سلاسل الإمداد، وارتفاع حاد فى أسعار النفط والسلع الأساسية، وهو ما يهدد بزعزعة الاستقرار فى اقتصاد عالمى لا يزال يعانى من تداعيات الأزمات المتلاحقة.

• • •

قفزت أسعار النفط بنحو 7% عند التسوية الجمعة الماضى، عقب تبادل الضربات المباشرة بين إسرائيل وإيران، مما أجج مخاوف المستثمرين من تعطّل الإمدادات النفطية من المنطقة. فقد ارتفعت عقود خام برنت إلى 74,23 دولارًا للبرميل، بعد أن لامست مستوى 78,5 دولارًا خلال جلسة التداول، وهو الأعلى منذ يناير الماضى. كما قفز خام غرب تكساس الأمريكى إلى 72,98 دولارًا، بعد بلوغه 77.6 دولارًا للبرميل خلال التعاملات. تزامنًا مع ذلك، قفزت أسعار الذهب فى السوق الفورية بنسبة 1,0% ليصل إلى 3388,20 دولارًا للأونصة، مقتربًا من حاجز 3400 دولار للمرة الأولى منذ أوائل مايو. كما صعدت العقود الأمريكية الآجلة للذهب بنسبة 1,9% لتسجل 3406,60 دولارًا للأونصة فى بورصة نيويورك، ما يعكس تسعير الأسواق لاحتمالات اتساع نطاق الصراع، خاصة فى حال تعرّض الملاحة عبر مضيق هرمز أو باب المندب لأى تهديد مباشر. وتعززت مخاوف الأسواق بقياس مؤشر VIX، المعروف بمؤشر الخوف، الذى شهد تقلبات حادة خلال اليوم التالى لبدء العمليات، حيث قفز بنسبة 12-15% ليصل إلى 21,5 نقطة (أعلى مستوى منذ أكتوبر 2023) فى أعقاب التصعيد الإسرائيلى ــــ الإيرانى، مما يعكس مخاوف المستثمرين من المخاطر الجيوسياسية، مما يشير إلى استمرار التحوط ضد المخاطر قصيرة الأجل، خاصة مع مراقبة حركة الشحن فى مضيق هرمز وتذبذبات سندات الخزانة الأمريكية.

عشية هذه التطورات السلبية، توقع البنك الدولى تباطؤ النمو العالمى إلى 2,3% فى 2025، ويشير صندوق النقد الدولى إلى احتمال ثباته حول 3,3%، وسط تراجع الطلب العالمى واضطراب سلاسل الإمداد، فى وقت تزداد فيه معدلات الفائدة وتضيق فيه الخيارات أمام صناع السياسات. ومع ازدياد الاعتماد العالمى على أدوات الدين فى تمويل الإنفاق العام، تزداد حساسية الأسواق لأى توترات قد ترفع تكاليف الاقتراض أو تضعف قدرة الدول على خدمة ديونها. 

• • •

فى السياق المصري، فإن توقف إنتاج حقل ليفياثان الإسرائيلى نتيجة التطورات الأمنية، يعنى وقفًا شبه كامل لإمدادات الغاز الطبيعى التى كانت تصل لمصر لإعادة التسييل وإعادة التصدير، أو حتى لدعم الشبكة القومية. هذا التطور قد يتسبب فى فجوة تموينية بمرفق الكهرباء، خاصة خلال أشهر الصيف ذات الأحمال المرتفعة، ما يعيد إلى الأذهان سيناريوهات تخفيف الأحمال التى شهدناها العام الماضى. 

القطاع السياحى بدوره ليس بمنأى عن التأثر، فقد ارتفعت مؤشرات عدم اليقين فى الأسواق العالمية، وترافق ذلك مع اضطراب فى حركة الطيران، وإغلاقات جزئية لبعض المجالات الجوية المحاذية لمسرح العمليات.

 أما على صعيد تحويلات العاملين فى الخارج، فالوضع أكثر تعقيدًا. فمن جهة، فإن ارتفاع أسعار النفط يعزز من موازنات دول الخليج، ذات الفوائض النفطية، والتى تُعد السوق الكبرى للعمالة المصرية، ما قد يدفع بتحويلات المصريين هناك إلى مزيد من الارتفاع، بعدما سجلت قرابة 31,9 مليار دولار فى 2023، وفق بيانات البنك المركزى. لكن من جهة أخرى، فإن أى تباطؤ فى اقتصادات الخليج وغيرها من دول حاضنة للعمالة المصرية، نتيجة تصعيد ممتد أو اضطراب تجارى عالمى، قد يلقى بظلاله على التوظيف والقدرة على الادخار، وبالتالى على حجم التحويلات.

 

• • •

فى مواجهة هذا المزيج من التضخم الجيوسياسى والركود الاقتصادى، تجد الدول النامية والناشئة نفسها أمام خيارات ضيقة، خصوصًا تلك التى تمضى قدمًا فى برامج إصلاح اقتصادى بالتنسيق مع مؤسسات تمويل دولية. مصر تأتى فى مقدمة هذه الدول، حيث تخوض مرحلة حساسة من الإصلاح بالتعاون مع صندوق النقد الدولى، وسط آمال بتدفقات استثمارية، وطروحات واعدة، وتحسن مرتقب فى الجنيه المصرى.

لكن أى تصعيد إقليمى، خاصة فى الشرق الأوسط، يضاعف من تكلفة التمويل الخارجى، ويرفع من اشتراطات المستثمرين الدوليين، ويضعف شهية رءوس الأموال تجاه الأسواق الناشئة. كما أن ارتفاع أسعار الطاقة يعنى بالضرورة ضغوطًا على الموازنة العامة المصرية، واتساعًا فى فجوة ميزان المعاملات الجارية، وتآكلًا جزئيًا لمكاسب الإصلاح. وما لم يتم احتواء التصعيد، فإن الخطر لا يقتصر على الاقتصاد الكلى، بل يمتد ليصيب ثقة المستهلك، وقدرة القطاع الخاص على التوسع. 

فى المقابل، تتيح الأزمات الكبرى أحيانًا فرصًا لإعادة التموضع الاقتصادى، فإذا نجحت مصر فى إثبات قدرتها على إدارة المخاطر الإقليمية بكفاءة، فإنها قد تعزز من جاذبيتها أمام مستثمرين يبحثون عن ملاذات مستقرة نسبيًا فى منطقة تموج بالاضطرابات. وفى هذا الإطار، يصبح الحفاظ على استقرار الجنيه، وضبط معدلات التضخم، وإحكام التنسيق بين مزيج السياسات النقدية والمالية والتجارية، عناصر حاسمة فى الحفاظ على ثقة الشركاء الدوليين.

من هنا، لا يكون حديث البعض عن الاستعداد لاقتصاد الأزمة مجرد تهويل، بل هو إقرار بضرورة رفع مستويات الجاهزية، خاصة ما يتعلق بتأمين التمويل والسلع الاستراتيجية، وتخفيف الاعتماد على الخارج فى القطاعات الحيوية، وترشيد الإنفاق بما لا يضر بحقوق الفئات الأضعف، وتفعيل خطط الطوارئ كما فى قطاع البترول. كما يتطلب ذلك وضع سيناريوهات متعددة لتطورات الأزمة، واتخاذ قرارات تستهدف الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار فى ظل الظروف الأسوأ.

إن ما يجرى بين إيران وإسرائيل، حتى ولو توقف عند حدود تبادل الرسائل النارية، ينبغى أن يوقظ وعينا الاقتصادى قبل العسكرى، وأن يسرّع من وتيرة الإصلاح، ويقنعنا بأن بناء القدرة الذاتية هو حائط الصد الأخير فى أزمنة السيولة والاضطراب. وتبقى الكلفة الحقيقية للحرب كامنة فى ما يترتب عليها من اضطرابات لا تظهر على شاشات الأخبار، بل فى ميزانيات الدول، وفى موائد الفقراء، وفى حسابات المستثمرين الذين يرون العالم من نافذة الأرقام قبل المبادئ.

• • •

فى الختام، يتضح أن التحديات الراهنة تتطلب من مصر تبنى سياسات اقتصادية مضادة للتقلبات (counter-cyclical policies)  تمكنها من امتصاص الصدمات الإقليمية والعالمية. كما يصبح تطوير نماذج للتوازن العام الديناميكى أمرا حيويا لتحسين دقة التنبؤ بتداعيات الأزمات على القطاعات المختلفة، مما يسمح باتخاذ إجراءات استباقية بدلاً من ردود الأفعال.

وفى هذا السياق، يجب أن تشكل «رؤية مصر ما بعد 2025» إطارا مرنا قابلا للتطوير المستمر، بحيث لا تتحول إلى خطة جامدة، بل تظل قادرة على التكيف مع المتغيرات العالمية المتسارعة التى تفرض نفسها بين الحين والآخر. فالقدرة على إعادة تشكيل الأولويات وتعديل المسارات فى الوقت المناسب ستكون عاملاً حاسماً فى نجاح أى استراتيجية تنموية طويلة المدى.

ويبقى الأهم هو تحويل هذه الرؤية المرنة إلى آليات تنفيذية فعّالة، مع بناء أنظمة رصد ومتابعة ذكية تتيح قياس الأداء وتعديل السياسات فى الوقت الحقيقى. ففى عالم يتسم بعدم اليقين، تصبح المرونة المؤسسية والقدرة على التكيف، أداة بقاء واستمرار لا تقل أهمية عن الموارد المالية والبشرية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved