حكاية ناس أعرفهم
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 16 يوليه 2024 - 6:30 م
بتوقيت القاهرة
صعدت للميكروباص واتجهت كعادتها مباشرة نحو مكانها خلف السائق. نظر محمود فى المرآة وسألها، «صباح الخير يا أم حسين. مالك. مين مزعلك على الصبح؟، ما اتعودناش نشوفك زعلانة». رفعت حرف طرحتها ومسحت بها دمعة كادت تنزل على خدها. لم تجب واحترم الجميع، السائق وركاب الباص، صمتها. تكتموا على فضولهم وصمتوا.
رحلتها كل يوم تستغرق ساعة زمان تقضيها أم حسين عادة تتسلى بتصرفات المارة وجمال البيوت والحدائق. لم تجد يوما غضاضة فى أن يصل إلى سمعها كلمات غير طيبة تصدر عن السائق معبرا عن ضيقه وتبرمه من صعوبات حياته اليومية وعلاقاته الحساسة برجال الشرطة ومن التدهور الذى أصاب الناس فى أخلاقهم. كما أن الملل لم يكن يتسرب إليها من الشكوى الدائمة فى سوق الخضار كما فى الباص من «استحالة» استمرار العيش إذا استمرت سبل الحياة تضيق وتتعقد على النحو الحاصل فى السنوات الأخيرة، فالعيش وإن ضاق وتعقدت سبله استمر ولم يتوقف رغم استمرار التضييق والتعقيد.
• • •
اليوم مختلف قليلا عن سائر الأيام. الست أم حسين لم تتوقف هذا الصباح فى السوق وسدت أذنيها عن أحاديث الشكوى الصادرة عن الركاب، نساؤهم والرجال والشباب من الجنسين. بل إن اليوم منذ قبل شروقه بدأ وفي نيته الاختلاف. كعادتها سهرت الجدة أم حسين مع حفيداتها الأربعة وأمهم فى شقتهم حتى قرب انتصاف الليل، انسحبت فى الموعد دون تبادل تحيات وتمنيات إلى غرفة نوم حفيداتها الأخريات لتستلقى على فرشتها المعتادة. نامت نوما عميقا لساعات لم تعرف عددها. أفاقت منزعجة على هزات كتف عنيفة وأصوات عالية أقرب إلى الصراخ.
راحت أصغر البنات، ابنة الثانية عشرة، تحكى فى رواية مقطعة الأجزاء ما رأت وسمعت خلال ساعات ما بعد الفجر وقبل الشروق. استيقظت لتجد أمها تجلس على حافة الفراش الذى تقاسمتاه منذ نشأت ووعت، رأت فى يدها، أقصد يد الأم، كيس أدوية أكثرها مخصص لعلاج الجلطة الدماغية التى أصيبت بها قبل شهور قليلة، رأتها تستخرج منه الأشرطة ومن الأشرطة تنتزع الحبوب والأقراص وتجمعها فى كفها الآخر. وفى لمح البصر ألقت بكل ما جمعت فى جوفها ودعت ابنتها للعودة للنوم. لم تلحظ الطفلة، أو المراهقة الصغيرة، كم الدموع المختزن فى عينى الأم، ولكنها استسلمت لذراعيها تسحبانها نحو صدرها لتنام وقتا لم تعرف مداه فى حضنها. أفاقت على صرخة مكتومة من أمها الممسكة ببطنها والمتلوية بالألم، تلاها سقوط الأم من فراشها على أرض الغرفة ساكتة لا تتحرك لكن بقى لسانها يحاول النطق بكلمات متناثرة.
أفاقت الشقيقات الثلاثة والجدة على صراخ الصغيرة وعويلها. تعالى البكاء وتعددت أشكال الفوضى فى سلوك أفراد العائلة وليس فيها رجل أو شاب بالغ. نظرت أكبرهن، أقصد الشقيقات، من النافذة لتعرف أن الفجر لم ينبلج تماما. راحت تشاور جدتها التى طلبت منها الاتصال بابنها، خال البنات، وبأبيها، طليق أمها. استمرت الأم «تهلوس» حسب قول أمها «أم حسين».
• • •
خلاصة الهلوسة، حسب ترجمة الأم والشقيقة الكبرى ما يلى. «أنا تعبت يا بنات. مبقتش قادرة على إعاشتكم وتربيتكم. الجلطة كانت إنذارا. لم أرتدع. أحلف لكم إنى ما قصرت. لم أقابل بابا أو مدخلا إلا وطرقت من أجلكم. عملت ساعات إضافية وبرضه فضل الدخل أقل عن حاجاتكم الضرورية.
تحملت الأذى والضرر من ناس ولاد حرام علشانكم وعلشان أعيش مدة أطول معاكم وليكم. كلمت أبوكم، وانتم عارفين إنه كسيب، قاللى الكلمتين اللى بيقولها ليكم، مصاريفه كتير وطلب منى أعيد عليكم إنه مش ناوى يجهزكوا بأكتر من التلاجة، وبيكرر على التلات بنات اللى لسه بيروحوا المدرسة إنهم لازم يقعدوا فى البيت لأنه مش حيدفع فلوس تانى للمعلمين إياهم بتوع المجموعات. رديت قولتلوا مش كفاية خرجنا الكبيرة علشانك من المدرسة وهى يا دوب على وش شهادة.
قاللى عندهم جدتهم خليها تساعد. رديت إن أمى عندها دلوقت ستين سنة وبتشتغل فى بيتين فى وقت واحد ومسئولة عن خمسة أحفاد غير ولادنا مالهمش ذنب فى جواز أهلهم مرة تانية من نسوان مش عايزين يربوا ولاد غيرهم. قلت إن عيالى تعبوا وكلنا تعبنا.
وانتو يا ولادى تعبتوا. وأنا يا بنات تعبت. أنا بكلفكم كتير تمن الأدوية الغالية اللى باخدها ومش قادرة أساعدكم ولا أخدمكم. من فضلكم ما تزعلوش منى بسبب اللى انا عملته فى نفسى. أنا فكرت يمكن أخفف شوية الحمل على مصروفنا لو أنا مت. وانت يا أمى كفاية اللى انت بتتحمليه ومش ذنبك. أنا عارفه إن أبونا ما منوش فايدة. رحت مرة والتانية والتالتة وطردنى وقاللى حد كان قالك اتطلقى والا دخليهم مدارس. روحى لأمك ما هى مكنزة فلوس على قلبها. حتقوليلى ما هى بتربى عيال تانيين من ولادها الصبيان. تستاهل. خليها ترميهم فى الشارع، أهم ولاد الشوارع على الأقل ما بيناموش جعانين ولا محتاجين حيطة تضلل عليهم. بطلت أروحله».
«أنا تعبت وقلبى بيوجعنى ومعدتى قالبة، ما تزعلوش منى».
• • •
كانت ليلة ازداد فيها غم أهل البيت. كانت الأم فى أوائل الليل تشكو قلة الخبز الضرورى لوجبة العشاء. لا خبز ولا جبن وحتى لا بقايا أكل تأتى به الجدة من البيوت التى تخدم فيها. انتهت الليلة بسقوط أم البنات صريعة سكتة قلبية. حملوها إلى أقرب مستشفى تاركين أصغر البنات مع جدتها.
أما الجدة فكانت مرتبطة بمواعيد عملها. فى السابعة خرجت واستقلت الميكروباص. وصلت بيت مخدوميها. سألوها «ما بك؟»، أجابت «المشوار الطويل وقلة نوم.. وبنتى فى الإنعاش».