اعتذار متأخر لعبده جبير
سيد محمود
آخر تحديث:
الأربعاء 17 أغسطس 2022 - 12:20 ص
بتوقيت القاهرة
تعانى الحياة الثقافية من مرض عضال هو مرض النسيان، ذلك على الرغم من أن المثقفين يلوكون ليل نهار قولا مأثورا كتبه نجيب محفوظ فى رائعته «أولاد حارتنا» يقول فيه «آفة حارتنا النسيان».
المفارقة هنا أن المثقفين هم الفئة التى يفترض أن تكون معنية أكثر من غيرها بالحفاظ على الذاكرة القومية وصيانتها، غير أن ما يحدث على أرض الواقع يشير إلى العكس تماما.
وإذا تأملنا واقعنا الثقافى من السهل العثور على أسماء عديدة تم تجاهلها وتجاهل أدوارها، وآخر هؤلاء عبده جبير القاص والروائى والصحفى الكبير الذى لعب أدوارا مهمة فى الثقافة المصرية منذ نهاية الستينيات وحتى أبعده المرض منذ خمس سنوات فقط ومنذ ذلك التاريخ وهو بين أفراد عائلته دون أن يهتم أحد بمتابعة وضعه الصحى.
قبل ذلك عانى جبير أكثر من غياب، فقد غادر إلى الكويت منتصف التسعينيات بعد أن فقد بيته فى زالزل 92 وعمل هناك فى صحيفة القبس ثم اختير مستشارا لتحرير مجلة «الفنون» وحين عاد بعد نحو عشر سنوات من الغربة حاول استئناف دوره وأعاد إصدار مؤلفاته الإبداعية ومنها «فى سبيل الشخص، فارس على حصان من خشب، الوداع، موسم الذهاب إلى آخر الأحزان» وروايته الفذة «عطلة رضوان» لكن هذه المؤلفات لم تلفت نظر أحد لا هى ولا سلسلة الكتب النثرية المهمة التى أصدرتها دار آفاق وسجل فيها انطباعات وتأملات بالغة الأهمية عن الحياة الثقافية.
وتقدم هذه المؤلفات الشجية مادة خام أنيقة لكتابة سيرة الثقافة فى زمن التحولات وتدخل فى الإطار الذى يسميه المؤرخون «التاريخ من أسفل» إلا أن الحياة الثقافية لم تقدرها بما يلائم أهميتها لانشغالها بأسماء أخرى وقضايا مغايرة، ما دفع الرجل للاستقرار فى قرية تونس بالفيوم والتفرغ لإدارة فندق صغير هناك وضع فيه تحويشة العمر.
ظل جبير يأتنس بالاصدقاء ويفرح بقدومهم إليه أو اللقاء معهم فى شقة صغيرة اشتراها بحى المبتديان قريبا من بيته القديم خلف دار الهلال وداخل هذا البيت غنى الشيخ إمام واختبأ أحمد فؤاد نجم ونجيب شهاب الدين وصهلل فؤاد قاعود وداخله أيضا لعب جبير أدوارا مهمة لخدمة الثقافة الوطنية، فبخلاف المواهب التى رعاها ولدت على يديه العديد من المجلات التى خلقت ظاهرة متكاملة اسمها صحافة «الماستر» كشفت الوجه المستنير للثقافة المصرية وازدهرت على صفحاتها مواهب وأقلام لامعة ومن داخلها أيضا أعاد جبير إصدار مجلة «التبكيت والتنكيت» لعبدالله النديم فى إطار مشروع كبير تبناه لحماية الذاكرة الوطنية.
من يقرأ مؤلفات جبير سيكتشف حجم الجريمة التى ارتبكتها المثقفون فى حقه، فقد تجاهله الجميع وانشغلنا عنه بهمومنا اليومية ولم يعد أحد معنيا بذكره فى التكريمات والمهرجانات والجوائز.
ونحمد الله أن الصديق الطبيب أنور نصير زف لنا أخيرا خبرا سعيدا بشأن نجاح جبير فى تجاوز ظرفه الصحى الخطر والعودة بالتدريج لحياته الطبيعية ومباشرة العلاج الطبيعى بنجاح على أمل العودة من جديد بعد سنوات من الانقطاع والغياب.
يستحق عبده جبير الكثير والكثير، فلم يكن فى واقعنا الثقافى مجرد رقم لكنه كان نموذجا لراعي الأمل، فلم يكن بيننا من هو أكرم منه ومن هو أكثر عناية بالآخرين وإلى الان لم ينجح أحد فى ملء الفراغ الذى خلفه غيابه.
وشخصيا كنت واحدا من بين مئات بادر بدعمهم ورعاية خطواتهم الأولى منذ أن تعرفت عليه فى أولى زياراتى للكويت، فقد توجهت لمكتبه دون معرفة أو سابق انذار وطرقت بابه لأجد رجلا صعيديا بمواصفات كاملة.
غمرنى جبير بكرم بالغ ومحبة صافية واصلها بعد أن عاد إلى القاهرة وظل على اتصال يتابع خطواتى ويعرض خبراته الكبيرة بسخاء كبير، وهو المحرر الأدبى اللامع لمجلة المصور فى عز مجدها وهو أيضا صانع المجلات الماهر الذى عاون المفكر الراحل غالى شكرى فى صياغة الانطلاقة الثانية لمجلة القاهرة وحولها معه إلى منارة ثقافية بارزة.
يستحق «عبده» الكثير والكثير لعلنا نساهم فى تقريب إبداعه للأجيال الجديدة التى لن تتسامح مع تقصيرنا فى حقه وحق آخرين سبقوه فى التجربة والعطاء.