المجتمع المدنى العالمى وغزة والشرق الأوسط
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 16 أغسطس 2025 - 7:10 م
بتوقيت القاهرة
تستعد عشرات السفن الكبيرة والصغيرة للإقلاع متوجهة إلى غزة لدى نهاية شهر أغسطس الجارى فى محاولة جديدة لكسر الحصار المفروض على القطاع وإغاثة سكانه الذين أنزلت بهم إسرائيل مجاعةً. تحرك هذه السفن يأتى بعد تجربتى السفينتين مادلين وحنظلة اللتين أوقفتهما إسرائيل فى المياه الدولية، أى فى أعالى البحار، فى شهرى يونيو ويوليو الماضيين واعتقلت الناشطات والناشطين الذين كانوا على متنهما، ومنهم على ظهر السفينة حنظلة الناشطة السويدية الشهيرة فى مجال مكافحة التغير المناخى، جريتا ثينبرج، وعضوة البرلمان الأوروبى الفرنسية، ذات الأصول الفلسطينية، ريما حسن. السفينتان كانتا تحملان تركيبات غذائية للرضع، وأغذية، وأدوية، وعكازات، وكراسى متحركة لمن فقدوا جزئيا أو كليا قدراتهم على الحركة، فضلا عن رسائل تضامن مع سكان غزة. سفينتا يونيو ويوليو توجهتا إلى غزة بمبادرة من «تآلف أسطول الحرية» الذى كان قد نشأ فى سنة 2010 بالهدف المحدد لكسر الحصار المفروض على القطاع منذ سنة 2007. تصدت إسرائيل للسفن الست التى أرسلها التآلف فى سنة 2010 وقتل جنود عملياتها الخاصة تسعة ناشطين كانوا على متنها. منذ سنة 2010، واظب التحالف على إرسال سفن إلى غزة، وهو فعل ذلك فى سنوات 2011، و2015، و2018.
المتحدثة باسم «تنسيقية العمل المشترك من أجل فلسطين» شددت فى مؤتمر صحفى فى مدينة تونس على أنه خلافا للمرات السابقة فإن عشرات السفن، فى أكبر أسطول مدنى فى التاريخ، ستقلع هذه المرة من موانئ حول العالم، أولها قافلة من السفن من موانئ فى إسبانيا يوم 31 أغسطس، تتبعها قافلة أخرى من موانئ فى تونس فى 4 سبتمبر، وتتلاقى كلها فى غزة. المتحدثة أشارت إلى أن نشطاء من 44 دولة سيشاركون فى هذا المجهود المشترك الذى تنظمه أربعة تحالفات بهدف «كسر الحصار غير المشروع المفروض على غزة عن طريق البحر، وفتح ممر إنسانى إليها، ومواجهة عملية الإبادة الجماعية الجارية الموجهة ضد الشعب الفلسطينى». التحالفات المنظمة الأربع هى «تآلف أسطول الحرية» المذكور، و«أسطول الصمود المغاربى»، و«التحرك العالمى إلى غزة»، و«صمود نوسانتارا» وهو تآلف من تنظيمات للمجتمع المدنى فى ماليزيا وثمانية بلدان أخرى فى منطقتها. متحدث آخر باسم التنسيقية، فى نفس المؤتمر الصحفى، أضاف أن عدد الناشطات والناشطين الذين سجلوا أسماءهم للمساهمة فى المجهود المشترك تعدى الستة آلاف سيتلقون تدريبات فى موانئ الإقلاع، وأن فعاليات للتضامن ستنظم، ومخيمات ستنصب على امتداد رحلات السفن. لم يبق إلا أسبوعان سوف يتحقق المراقبون بعدهما من كفاءة التنسيقية فى تنظيم الأسطول وفى إبحاره وفى تدريب الناشطات والناشطين المشاركين فى تظاهراته. نجاح هذا التنظيم وهذا التدريب، بصرف النظر عن مواجهة القوات الإسرائيلية للأسطول، يمكن أن تكون له آثار عظيمة الأهمية على ممارسة العلاقات الدولية وعلى حوكمتها لأنه سيكشف عن فعالية المجتمع المدنى من عدمه.
إن كان الأسطول المتوجه إلى غزة اعتبارا من نهاية الشهر الجارى هو أكبر جهد ينظمه المجتمع المدنى العالمى فإن دلالته تستمد أيضا من أنه ليس مجهودا منعزلا. هو يندرج فى إطار تحركات للمجتمعات المدنية فى بلدان عديدة، تحركات وصلت إلى المجتمعات السياسية ذاتها. فى لندن ونيويورك وباريس وكوبنهاجن وأمستردام وبرلين وغيرها سارت مظاهرات تطالب بوقف جرائم الحرب والإبادة الجماعية فى غزة وتتضامن مع سكانها ومع مجمل الشعب الفلسطينى. أعضاء فى المجلس البلدى لمدينة إسبانية صغيرة يرفعون العلم الفلسطينى على مقر بلديتهم. هتافات لمساندة سكان غزة والشعب الفلسطينى فى حفلين غنائيين فى كوبنهاجن وفى كوريا. مغنٍ كندى فى حفلة غنائية يحييها يهتف لفلسطين. عارضة أزياء دانماركية ترفع لافتة أثناء عرض للأزياء تطالب بوقف الإبادة الجماعية فى غزة. آلاف من العاملين والعاملات فى الرعاية الصحية يتظاهرون فى لندن من أجل غزة. برلمانيون إيطاليون من حزب النجوم الخمسة يشكلون علم فلسطين بملابسهم فى داخل قاعة مجلس النواب الإيطالى. أكثر من ثمانين منظمة أمريكية ودولية تطالب الكونجرس الأمريكى باحترام القانون الأمريكى وبوقف المعونة العسكرية الأمريكية لإسرائيل. زعيم حزب العمال البريطانى السابق، والعضو المستقل الحالى فى مجلس العموم، جيريمى كوربن يعلن عن انعقاد محكمة شعبية بشأن غزة فى 4 و5 سبتمبر القادم فى لندن للنظر فى المسئولية عن تمكين إسرائيل من مواصلة سياستها فى غزة، ويتهم الحكومة البريطانية بالاشتراك فى تحمل هذه المسئولية باستمرارها فى تزويد إسرائيل بالسلاح.
• • •
ليس المقصود مما سبق أن الإجماع منعقد على إدانة سلوك إسرائيل فى غزة وفى مجمل الأراضى الفلسطينية المحتلة وفى سائر الشرق الأوسط، ولكن النظرة السلبية لإسرائيل متصاعدة. فى استطلاع للرأى أجرته مؤسسة جالوب فى شهر مارس الماضى، كان التعاطف مع إسرائيل بين الأمريكيين فى أدنى درجاته بينما التعاطف مع الشعب الفلسطينى فى أعلاها محققا قفزة تبلغ الستة فى المائة. وفى يوليو وجدت جالوب أن 60 فى المائة من الأمريكيين يستنكرون الحرب الإسرائيلية على غزة وهم كانوا 45 فى المائة فقط فى نوفمبر 2023. استطلاع آخر للرأى أجرته مؤسسة يوجوف البريطانية كشف أن أقل من 20 فى المائة من المستطلعة آراؤهم فى ستة بلدان أوروبية فى شهر مايو الماضى آراؤهم إيجابية بشأن إسرائيل. البلدان الستة هى بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإسبانيا، والدانمارك، وإيطاليا. تراوحت معدلات التعاطف مع إسرائيل فى هذا الاستطلاع فى هذه البلدان بين 13 فى المائة و21 فى المائة بينما كانت الآراء السلبية بشأنها فيما بين 63 فى المائة و70 فى المائة. فى استطلاع لمؤسسة بيو فى الربيع الماضى أبدى 72، و75، و75 ، و72، و60 فى المائة من المستطلعة آراؤهم فى هولندا وإسبانيا والسويد واليونان وكندا بآراء غير مواتية أو غير مواتية إطلاقا بشأن إسرائيل. هذه المعدلات كانت 80 و79 و74 و93 فى المائة فى إندونيسيا واليابان وأستراليا وتركيا على التوالى، وكانت 61 و58 فى المائة فى المكسيك والبرازيل.
ذهب كُثر من المحللين إلى أنه لم يمكن لسياسى مثل الرئيس الفرنسى أن يتجاهل موقف الرأى العام فى بلاده وأن هذا الموقف هو الذى دفعه إلى الإعلان عن اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية أمام الجمعية العام للأمم المتحدة فى شهر سبتمبر القادم. نفس التقدير انطبق على بريطانيا والبرتغال اللذين خرج رئيسا وزرائهما بعده بنفس الإعلان.
• • •
ما عسى الدول العربية، ومصر تحديدا، أن تفعل ومواقف المجتمع المدنى العالمى وتحركاته كما بيّنا أعلاه؟ هذه مواقف وتحركات ذات قيمة لا يجوز تبديدها لأنها تصب فى النهاية فى صالح المواقف المصرية والعربية التى تبغى تسوية منصفة ومستدامة للنزاع الفلسطينى الإسرائيلى وللصراع العربى الإسرائيلى الأعم ولكافة صراعات الشرق الأوسط، تسوية حقيقية، وليس إهالة للتراب على النزاع والصراعات تخبئ عن الناظرين جمراتها المتقدة القابلة للاشتعال بأشد ما كانت مشتعلة إذا ما هب بعض الريح فأزاح التراب عن الجمر المدفون. الجمر سيبقى متقدا فى حالتين، بدون ترتيب؛ الأولى هى إن لم تجد القضية الفلسطينية تسوية منصفة مقبولة لأغلبية معتبرة من الشعب الفلسطينى، والثانية إن سعت إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر إلى الهيمنة على الشرق الأوسط والتعالى على دوله وشعوبه تهيئة لاستغلاله اقتصاديا بعد التوسع فيه إقليميا.
المجتمع المدنى فى كل مكان تعددى، خاصة فى الأنظمة السياسية التعددية. حتى فى هذه الأنظمة، تعامل الدولة معه معقد، ليس سهلا. لن تتفق الدولة مع هذا الاتجاه أو ذاك من اتجاهات المجتمع المدنى. يزداد الأمر تعقيدا عندما يكون على دولة أو دول ما أن تتعامل مع مجتمع مدنى عالمى يصدر عن ثقافات عامة وثقافات سياسية خاصة مختلفة ومتباينة. ولكن لا هذه الحجة ولا تلك ينبغى أن تكون عذرا يعفى من عدم التعامل معه ومن مساندة مجمل مسعاه فى منطقتنا.
يضاف إلى ضرورة التعامل معه وأخذ مساعيه عموما بجدية أن أى إعادة لصياغة الحوكمة العالمية، بإصلاح حقيقى لمنظومة الأمم المتحدة، أو باستبدال هندسة جديدة بها، لا بد ستفسح المجال لتمثيل ذى وزن للمجتمع المدنى فى عمليات اتخاذ القرار العالمية. ليس من المرجح أن يكون لتضييق الرئيس الأمريكى على المجتمع المدنى فى الوقت الحالى مستقبل طويل المدى.
أستاذ الأبحاث بالجامعة الأمريكية بالقاهرة