وداعًا صنع الله إبراهيم

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: السبت 16 أغسطس 2025 - 7:05 م بتوقيت القاهرة

(1)
ما بين الأزمة الصحية التى ألمت به فى مايو الماضى، ودخل على أثرها المستشفى فى حالة حرجة، وحتى رحيله عن دنيانا قبل أيام، لم تمض سوى أشهر معدودة (ما لا يزيد على الأشهر الخمسة أو الأربعة)، تحلق حوله محبوه وكتب الكثيرون (وأنا منهم) عن صنع الله وأدب صنع الله، وكتابته الفارقة وقيمته الكبيرة.. كانت هذه الكتابات فى مجملها نداءات وصيحات بألا يستسلم للنهاية التى بدت تلوح فى الأفق وتقترب بشدة.


الشاهد فى الأمر؛ كان التفاف الجمهور العام ونخبة المثقفين على السواء (وكان اللافت أيضا اهتمام المؤسسة الرسمية) حول محبة وتقدير الكاتب الكبير، بالمتابعة اليومية الدقيقة لحالته، الدعاء له بالصحة وطول العمر، التقدير الحقيقى لقيمة الكاتب، وما أنجزه طوال عمره ليس فقط من كتابة إبداعية وأعمال روائية وقصصية، وأشكال كتابية أخرى، وإنما أيضًا فيما تجلى من مواقف وآراء اتفق حولها من اتفق، واختلف حولها من اختلف، لكن - وفى النهاية - ثمة إجماع على احترام صنع الله إبراهيم، وإكباره وتقديره.


لم يكفِ هذا الالتفاف والالتفات ليمنح صنع الله إبراهيم أكثر مما منحه من هذه الشهور الخمسة الماضية ليودعنا وداعه الأخير، ويلقى سلامه على الجميع، ويرحل فى هدوء وصمت؛ ومن دون ضجيج يذكر، وإن كان خبر وفاته قد هز الوسط الإبداعى العربى كله من المحيط إلى الخليج، فصنع الله إبراهيم لم يكن مجرد كاتب وأديب وروائى وأحد كبار الممارسين للكتابة كنشاط إبداعى وثقافى وكفعل مقاومة فقط؛ بل كان علامة على جيل كامل؛ يكاد يكون قد اختفى تمامًا من على مسرح الحياة، ولم يعد باقيا سوى أدبهم ونصوصهم وسيرتهم الإبداعية والإنسانية، وهى الأبقى والأدوم ذكرًا على أية حال.


(2)
برحيل الكاتب والروائى الكبير صنع الله إبراهيم (1937-2025) انطوت صفحة الستينيات وجيل الستينيات بكل ما قدمه أبناء هذا الجيل للأدب المصرى والعربى، وبما قدموه من محاولات جريئة وجسورة للتجديد والتجريب، وتجاوز ما قدمه جيل الرواد فى ميدانى القصة والرواية، والكتابة الإبداعية عمومًا، فضلًا على تطور الوعى الجمالى بالأشكال الأدبية، والبحث عن مسارات وأساليب جديدة للرواية العربية.


بين أبناء هذا الجيل وأعلامه، كان صنع الله إبراهيم نسيجًا وحده بتكوينه، بمواقفه، بكتابته، بخياراته فى الحياة والناس والعالم وما فيه. كاتب مراوغ تغرى بساطة سرده وسهولة نسجه بأنه كاتبٌ عادى! لكنه لم يكن كاتبا عاديًا أبدًا! كان واعيًا وعميقًا، ويعلم أن يختط لنفسه مسارًا مغايرًا وطريقًا مختلفًا، لديه مزج بديع بين العام والخاص، حياده السردى «مذهل»، طريقة الرصد التسجيلى وتقنية عين الكاميرا التى اعتمدها مع فن السرد وأدواته، أتاحت له حالة من التأمل قد تثير من الصدمة لقارئها -حال قراءتها بنفاذ- استشفاف دلالات هذا الحياد «المزعوم»!


مفتاح تجربة صنع الله فى الحياة عمومًا، وفى الإبداع والكتابة بدرجة أخص، يمكن استشفافها فى تلك الأسطر التى أجاب فيها صنع الله عن سؤالٍ وجهه له الصديق والصحفى القدير محمد شعير فى حوار أجراه معه فى مناسبة بلوغه الثمانين:
"كنت قد بدأت حركتى من موقع التمرد على ما كان يُعرف فى ذلك الحين بالواقعية الاشتراكية. شعرت أنا وكثيرون غيرى أنها تزيف الواقع وتزوقه. وقدّرت أنّ هذا الخداع لا يساعد الإنسان، بل يضلله. هكذا عاهدت نفسى منذ البداية أن أذكر الحقيقة. ولأن الحقيقة ليست مطلقة، لا بد من أن أبذل كل جهد، مسلحًا بالعلم والتجربة. وكان لدىّ قدر كاف من الغرور وقتذاك ألا أكرر أو أقلد، وأن أصمت إذا لم يكن عندى ما أضيفه. أما المتغيرات، فقد كنت حريصًا على أن أعرف مناطق ضعفى ومحاولة تلاشيها من رواية إلى أخرى».


(3)
هكذا -بالضبط- تحددت القيم الكبرى التى فى ضوئها سيسير صنع الله مشواره الطويل، ويصنع طريقه، ويبنى مجده وتاريخه؛ حركته بدأت من موقع "التمرد" مسلحا بالثقافة والوعى والسعى المحموم واللا نهائى لتأصيل القناعات وتعميقها وتطويرها، وبالتالى تحرر من أسار التقيد المذهبى والانتماء الدوجمائى إلى براح الأفكار واصطراعها واصطخابها، واتخاذ موقف إزاءها لا يعنى أبدًا القول الفصل والحقيقة المطلقة؛ لأنه آمن أن «الحقيقة ليست مطلقة».


وكان منطقيا أن تكون محطات الإبداع ونواتج الكتابة تحقق هذا السعى وهذا الوعى المسلح بالعلم والتجربة، والحرص على التعرف على مناطق ضعفه، ومحاولة تلاشيها من عمل إلى آخر، ومن رواية إلى أخرى.


لعل صنع الله إبراهيم فى مشواره الذى امتد لـ88 عامًا كان مؤمنًا بأن الكتابة تحريض على الحياة، وإعادة النظر والتفكير فيما يجرى حولنا.. وأن الكاتب فى سعيه لهذا التحريض، يطرح "وجهة نظر" ولا يملى أوامرَ أو نواهى.

كما كان يؤمن بأن القارئ هو الذى يستطيع أن يحيا على نحو أفضل مما كانت عليه قبل القراءة؛ هذا هو القارئ العادى حقًّا. أما الذى يختزن مكتبةً فى رأسه دون أن يتأثر بسطر. فهو ليس قارئًا عاديًّا. إنه مخزن لا أكثر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved