المتحف الإثنوغرافي.. تاريخ النشأة والتأسيس

عاطف معتمد
عاطف معتمد

آخر تحديث: الثلاثاء 16 سبتمبر 2025 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

يعد تأسيس المتحف الإثنوغرافى فى الجمعية الجغرافية الخديوية أحد أبرز الأنشطة الثقافية والعلمية التى قامت بها مصر خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر. هذا المتحف الذى ظهر للوجود فى 1898 هو أول متحف من نوعه فى مصر، ولم يظهر أى شىء نظير له إلا بعد أكثر من نصف قرن، حين افتتح المتحف الزراعى قسما للإثنوغرافيا فى عام 1957.

لا يعتبر المتحف الإثنوغرافى بالجمعية الجغرافية المصرية فريدا فى نوعه فى مصر فحسب بل هو فى الحقيقة من أوائل متاحف مصر قاطبة. فلم يسبقه للظهور إلا ثلاثة متاحف: الأنتيكخانة أو المتحف المصرى (1857-1858) ومتحف الفن الإسلامى (1880) ومتحف التاريخ اليونانى الرومانى فى الإسكندرية (1892).

مر المتحف الإثنوغرافى بقصة ملحمية عكست التطور السياسى والعلمى والثقافى فى مصر خلال أكثر من قرن من الزمن، وكان هذا المتحف حتى عقد مضى من الزمن قبلة للسائحين وأحد أهم المقاصد السياحية الثقافية لكل زوار مصر من أرجاء العالم، خاصة أنه يقع غير بعيد عن المتحف المصرى فى وسط العاصمة وعند ملتقى ميدان التحرير بأحد أشهر شوارع القاهرة: شارع قصر العينى.

 

الابن الشرعى للجمعية الجغرافية

 

تأسست الجمعية الجغرافية الخديوية فى عام 1875 بتوجيه من الخديوى إسماعيل (1863-1879) استجابة للتطورات التى شهدتها مصر فى عهده سيما الذروة التى بلغتها فى بناء «إمبراطورية» شاسعة الأرجاء تمتد من القرن الإفريقى شرقا حتى مشارف إفريقيا الوسطى غربا، ومن المتوسط شمالا حتى منابع النيل فيما وراء بحيرة فيكتوريا جنوبا.

آمن الخديوى إسماعيل أن الإمبراطورية التى افتتح أرجاءها جده محمد على باشا لا يمكن أن تستكمل بنيتها العلمية والثقافية إلا بتأسيس جمعية جغرافية تقوم بعملين متوازيين:

   •  بحث ودراسة الأقاليم التى سيتوجه إليها الجيش المصرى حتى توفر له الدراسات اللازمة عن الشعوب التى سيقوم بغزوها، وما تضمه من ثروات وشعوب وخيرات وموارد طبيعية واقتصادية. وهنا كان لابد أن يترأس الجمعية عالم متبحر فى الاستكشاف خبير فى فنون الأرض والبشر، فتم اختيار الرحالة وعالم النبات الشهير «جيورج شفاينفورث» وتم الحفاظ على هذا التقليد سنوات طويلة لاحقة فلم يرأس الجمعية إلا علماء نوابغ استجمعوا مادتهم العلمية من الأرض والبشر لا من الكتب والنظر.

   •  تحليل النتائج التى تعود بها الرحلات والكشوف والغزوات على يد علماء ودارسى الجغرافيا لكى تفيد الدولة فى المقبل من المخططات والمشاريع. وهنا كانت تلك الاستكشافات والحروب تعود ومعها نماذج من المقتنيات الثقافية للشعوب التى مرت بها. سواء حصلت على هذه المقتنيات الحضارية والثقافية بشكل سلمى أو عبر الغزو والحرب.

على هذ النحو تجمعت لدى الجمعية الجغرافية الخديوية مقتنيات للشعوب التى احتك بها الجيش المصرى فى السودان.

السودان فى تلك الفترة كان يعنى إقليما كبيرا لا يشمل فقط ما نعرفه اليوم باسم دولتى السودان (الشمالى والجنوبى) بل يمتد إلى أعماق منابع النيل. كما أن الحملات المصرية لم تكتف فقط بالتوغل فى أعالى النيل بل وصلت إلى القرن الإفريقى شرقا وأقاليم بلاد الصومال والحبشة على البحر الأحمر والمحيط الهندى.

تنوعت المقتنيات التى تجمعت لدى الجمعية الجغرافية من الأقاليم السابقة وكان أهمها الأسلحة بأنواعها، الملابس، آنية الطعام وأدواتها النادرة، بعض تماثيل أثرية، صور فوتوغرافية قام بأخذها الرحالة المرافقون لهذه الحملات المصرية. وكان لابد من تجميع كل هذه المقتنيات فى حوزة الجمعية الخديوية لتكون دليلا علميا يُرجع إليه وقت الحاجة. وظلت هذه المقتنيات فى حوزة الجمعية على سبيل المقتنيات دون أن يتأسس لها متحف رسمى حتى وقوع حدث ثقافى مهم غيَّر مسير ومصير هذه المقتنيات.

 

الإلهام من البندقية!

فى عام 1881 وبعد ست سنوات فقط من تأسيس الجمعية الجغرافية الخديوية عقد المؤتمر الجغرافى الدولى الثالث فى فينيسيا (البندقية) فى إيطاليا وكانت جمعيتنا المصرية من بين الجمعيات التى وجهت لها الدعوة ليس فقط للمشاركة بل لتقديم معرض جغرافى شامل.

كانت فكرة المعارض الشاملة هى أكبر متنفس ثقافى فى أوروبا فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر وستظل كذلك حتى النصف الأول من القرن العشرين. فى هذه المعارض تقدم كل دولة نماذج مصغرة من معالم ثقافتها. وفى حالة المعارض الجغرافية كالذى عقد فى البندقية كان على كل جمعية تقديم منتجاتها العلمية والثقافية وما تشمله من خرائط ومخططات ونتائج كشوف ورحلات فضلا عن المقتنيات الثقافية التى تعبر عن شعوب الدولة التى تنتمى إليها الجمعية ومعلومات تبين الخصائص والسمات الطبوغرافية والمناخية والجيولوجية.

فى تلك الأثناء كان الخديوى إسماعيل يقدم مصر باعتبارها «إمبراطورية» لها ممالك وشعوب تخضع لها فى الأقاليم التى ذكرناها فى السودان والبحر الأحمر ومن ثم فقد توجهت الجمعية الجغرافية للمشاركة فى مؤتمر البندقية بما يمكن أن يسمى روح العصر الإمبراطورى المصرى.

فى تلك الأثناء كان هناك مواطن إيطالى هو محرك العمل فى الجمعية الجغرافية أعنى الدكتور فريدريك بونولا.

جاء بونولا إلى مصر بسبب اضطرابات سياسية فى بلاده فالتحق بالحكومة المصرية وعمل فى خدمتها حتى وصل إلى مكانة الأمين العام للجمعية الجغرافية الخديوية. لم يكن هناك أفضل من المواطن الإيطالى الأصل فريدريك بونولا ليسافر إلى إيطاليا ويقدم المعرض الجغرافى الدولى باسم مصر وفتوحاتها العظيمة فى النيل والقرن الإفريقى.

فى هذا المؤتمر الذى عقد فى 1881 خطف المعرض المصرى الأبصار بفضل تنوع مواده وكثافة تفاصيله وإبهار المعروضات التى عرضها وفاقت 586 قطعة، وجاءت هذه المجموعات من الروافد التالية:

   •  مقتنيات من متحف الخديوى ( 24 قطعة).

   •  مقتنيات من المتحف الحربى وقيادة الأركان (100 قطعة).

   •  مقتنيات من متحف الجمعية الجغرافية الخديوية (79 قطعة).

   •  مقتنيات خاصة تعود للمستكشف الإيطالى رومُلو چيسى Romolo Gessi ) 292 قطعة).

   •  مقتنيات خاصة بالسيد هنرى دى فيتشى Henri de Vecchi مدير المكتب الزراعى (52).

   •  مقتنيات خاصة بتاجر شهير اسمه أربيب (39 قطعة).

خصص المؤتمر اثنتين من صالات العرض للمقتنيات المصرية وتم تصنيفها لتعرض وفقا للأقاليم الجغرافية الثلاثة التى تضمها المقتنيات: السودان؛ إقليم البحيرات الكبرى لمنابع النيل؛ وإقليم ساحل البحر الأحمر.

وكانت المفاجأة السارة فوز مصر فى هذا المؤتمر بوسام الامتياز من الطبقة الأولى متفوقة على كل الجمعيات الجغرافية الأخرى وهو الحدث الذى ما يزال مسجلا لمصر فى تاريخ الفكر الجغرافى ودور الجمعيات الجغرافية على مستوى العالم.

 

تأسيس المتحف

بعد عودة بونولا والمقتنيات من البندقية والتقدير الكبير الذى حظيت به الجمعية الجغرافية الخديوية فى المؤتمر انتبهت الأنظار إلى ضرورة تأسيس متحف يضم المقتنيات وتحويلها من مجرد مخزن أو مستودع إلى معرض دائم. ظل التفكير فى ذلك عشر سنوات كاملة ولم تتخذ الخطوات الفعلية إلا فى عام 1891.

ظلت عملية تأسيس المتحف متعاقبة عبر جهود متوالية ومنتظمة وإن كانت بطيئة خلال السنوات من 1891 وحتى 1898. وقد اتخذت الخطوة القانونية لها فى الاجتماع السنوى للجمعية الجغرافية الخديوية فى يناير 1896 حين أعلن رسميا عن تأسيس المتحف. ووجهت الدعوة للراغبين فى التبرع للمتحف بمقتنيات تصبح جزءا من مكوناته الأساسية مع التركيز على المقتنيات ذات الصلة بكل من مصر والسودان.

حددت الدعوة للتبرع معنى «الإثنوغرافى» فى أن تكون المقتنيات ذات صلة بالأديان والمعتقدات والطقوس والتمائم والسحر وأدوات الحياة اليومية وآنية الطعام والأثاث التراثى وأدوات الزخرفة والزينة والأسلحة الدفاعية والهجومية وأمتعة السفر والآلات الموسيقية والمشغولات الخزفية واللوحات الفنية المرسومة أو المشغولات المطرزة وأعمال النحت.

واكتمل بناء المتحف وتصميم قاعاته وافتتحه الخديوى عباس حلمى الثانى فى 12 ديسمبر 1898. 

وبعد افتتاح المتحف استمرت الجمعية فى استقبال الهدايا كما قامت فى عام 1928 بشراء مجموعة كبيرة من المقتنيات التى تمثل الحياة فى القاهرة والمناطق الريفية. كما تسلمت من وزارة التربية والتعليم مجموعة كبيرة من التحف على سبيل الإهداء.

وفى عام 1930 تلقت مجموعة كبيرة من هيئة قناة السويس فى شكل مجسمات وخرائط.

وعلى هذا النحو يمكن تصنيف مصادر مقتنيات المتحف إلى أربعة روافد:

   • الكشوف الجغرافية والعمليات العسكرية والتى قدمت مقتنيات للحياة فى العمق الإفريقى.

   • تبرعات وهبات من المستكشفين والتجار والرحالة وكبار رجال الدولة والأثرياء.

   • إهداء من وزارة التربية والتعليم وهيئة قناة السويس.

   • الشراء المباشر من تجار التحف والمشغولات الثقافية.

 

فى المقال المقبل نتعرف على أقسام المتحف ومقتنياته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved