مع الميادين مرة أخرى
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 16 سبتمبر 2025 - 7:50 م
بتوقيت القاهرة
قالت: «صحيح يا أستاذى، لقد كتبت بالفعل عن الميادين». سألت: «ومتى كان؟». أجابت: «كتبت فى سبتمبر من العام الماضى». أثارت الإجابة فى نفسى فضولًا. عدت أسألها: «لماذا هذا الحنين المتجدد إلى الميادين». ولأسألها أيضا ولنفسى، «ولماذا فى سبتمبر؟».
أستطيع ببساطة شديدة أن أخمن أنا نفسى الإجابة عن سؤال سبتمبر. لماذا يستعر الحنين للميادين أو لميادين معينة فى سبتمبر؟، يستعر الحنين فى سبتمبر لأنه الشهر الذى يشهد تصعيدا مفاجئا لكل العواطف والمشاعر، وهو الشهر الذى تتكثف فيه الجهود لمقاومة كل أنواع الملل، والتخلص من كل البقايا التى خلفها الإحباط والأسى على امتداد شهور الصيف إن كنا نتحدث من مكان فى نصف الكرة الشمالى، أو على امتداد شهور الشتاء، إن كنا نتحدث من مكان فى نصف الكرة الجنوبى.
سبتمبر فى رأيى وحسب خبرتى هو الشهر الأمثل لصنع الذكريات، وبمعنى أدق، لإخراج الذكريات من حيث ترقد فى انتظار حنين تخرج معه أو إليه. أود هنا أن أعلن عن قناعة خاصة وهى أن الذكريات فى هذا الشهر الرقيق تكون قد اقتربت جدا من السطح جاهزة ليقتطفها كثيرون رفعهم الشوق والحنين إلى مرتبة هى بين الأعلى فى مراتب الحب.
• • •
اكتشفت بالتجربة الشخصية وأنا فى هذه المرحلة المتقدمة من حياتى صلة العلاقة التاريخية التى ربطت سبتمبر بالميادين. لا أتحدث عن أحداث معينة وقعت لى أو معى فى ميدان بعينه أو آخر، ولكن فى كل سبتمبر أجد نفسى مدفوعا بكل الحنين نحو ميدان أو آخر من ميادين عشت فيها أو قريبا منها أو مررت بها. الميدان فى عرفى تاريخ وثقافة وحكايات شقاوة و«حواديت» عنف وحب. لا أذكر أننى جلست على مقعد فى مقهى يطل على الميدان أو على درج نافورة مياه فى جانب من جوانب ميدان إلا وقادنى المنظر إلى التفكير فى ظروف حادثة أو أخرى وقعت فى هذا الميدان. ما أن اقتربت مثلا من أحد مداخل ميدان المنشية بالإسكندرية إلا وطافت بمخيلتى على الفور حكاية الرصاصة الشهيرة التى لم تصب الزعيم عبدالناصر. وما أن اقتربت من ميدان السلام السماوى فى وسط بكين إلا وتذكرت «تمشياتنا» ولا أقول «تسكعاتنا»، نزار قبانى وأنا صباح كل أحد، متوجهين إلى حديقة القصر الإمبراطورى. هناك نتوقف أمام جماعة من الشباب يؤدون تدريبًا رياضيًا مألوفًا. يراهننى نزار أن أفلح فى التمييز بين حريم الصين ورجالها.
هنا فى ميدان الإسماعيلية قبل أن تحل الثورة فيتغير اسمه، كنت أرى جنودًا وضباطًا من أجناس مختلفة وخيل وخيالة مدججين بالسلاح. أراها تخرج من ثكنات أذكرها جيدًا مبنية بالطوب الأحمر أو بهذا اللون كانت تتلون. جنود هنود ونيباليون، هؤلاء كان يطلق عليهم «كتايب الجوركا»، يُعرف عنهم القسوة، أو جنود من أستراليا يحملون علم الإمبراطورية العجوز.
كنت قرأت عن «هوجة» عرابى والتى انتهت بمجىء جيش الإمبراطورية، وكنت سمعت من أبى عن «ثورة» 1919، وكنت هناك بنفسى فى يناير 2011 شاهدًا على ثورة أخرى قررت أن تحيل ميدان الإسماعيلية إلى حكاية كبيرة وطويلة ومئات بل آلاف «الحواديت» والحكايات الصغيرة. مررت به قبل أيام. جلست فى سيارتى أقارن معالم تطوعت خزانة ذاكرتى بطرحها، معالم ميدان الإسماعيلية عندما كنا نمشى إليه فى مظاهرات تلاميذ الثانوى أو فى نزهاتنا فى الطريق إلى حدائق قصر النيل فى الأربعينيات.
• • •
عشت شهورا أطل عليه كدبلوماسى صغير وحديث التعيين من غرفة مكاتبنا وكانت فوق «سطوح» وزارة الخارجية. أطل وأقارن معالم الميدان كما طرحتها ذاكرتى لميدان الإسماعيلية، أقارنها بمعالمه وقد صار يحمل اسمًا مختلفًا ثم بمعالمه عندما عدت من الخارج لأقضى فترة عمل فى جامعة الدول العربية، ثم بمعالمه عندما نشبت ثورة يناير وكنت شاهدًا يشاهد ويحلل ويوصى ويقترح ويشجع وينظم ويمشى بين الثوار يسأل ويجيب ويقارن ويتمنى ويشتغل بالتمييز بين الحقيقى والمزيف وبين الثائر وذى الغرض، ويعود ليقدم تقريره لأفراد فى لجنة للحكماء.
أعرف أنه منذ ذلك التاريخ تغيرت وظيفة الميادين. عديد الساحات التى كانت مواقع حكم وسلطة فى أوروبا الشرقية نشبت فيها ثورات أكثرها استعار من الربيع ألوانه ومن ثورة يناير شعاراتها وأحلامها. وقتها ومنذ ذلك الوقت حصلت الميادين على اهتمام يفوق الحاجة الأصلية إليها كساحات يشيد على جوانبها قصور أو مبانى الحكومة وتصلح كمساحات معقولة ومتواضعة تسمح بمشاركة قطاع من الجمهور فى مراسم تحية الحكام وكبار موظفى الدولة وقضاتها.
• • •
أعرف أيضا أن كثيرا من الدول قرر الاستغناء عن تقليد كان منتشرًا وأقصد مشاركة الجماهير فى بعض المراسم الرسمية، وعن وظيفة استقبال مظاهرات الغضب أو حتى الرضا. حدث هذا التغيير عندما قامت الحكومات بتضييق مساحات الفراغ فى الميادين وإشغالها بقواعد أسمنتية وصخرية تحد من حركة المرور وتحول دون التجمهر داخل الميدان. حكومات أخرى رفضت هذا الحل علما منها أن جماهيرها لن تسمح لها بتغيير معالم ميادين تزينها وتشرفها تماثيل قديمة لها مكانة ترقى إلى مستوى القدسية. تذكرت هذا الوضع وأنا أشاهد قبل يومين مظاهرتين عارمتين تجوبان شوارع لندن متوجهتين نحو ميدان أو آخر من ميادين تتحلى بتماثيل أو تقع وسط مبانٍ اكتسبت بحكم قدمها وروعة هندستها حب الجماهير. خافت الشرطة أن تجتمع المظاهرتان فى ميدان فينشب عنف بين المتظاهرين ففرقتهما قبل اجتماعهما. خافوا على الآثار فى الميدان أن تصاب بأذى فأضافوا إلى جنودهم جنودا متخصصين وبعضهم فوق خيولهم لزيادة الهيبة. تفرق المتظاهرون قبل أن تمتد للميدان يد «غريبة» تهيمن وأخرى تغير التاريخ، فللميدان، كغيره من الميادين، سوابق فى تغيير التاريخ.
• • •
عهد غير صريح على المطورين فى الغرب كما فى الشرق. عهد عليهم أن تخلو مدن المستقبل من ميادين فالحاجة إليها تنتفى بمرور الزمن. لا حاجة لدى المطورين وحكوماتهم لمؤتمرات شعبية أو مظاهرات تأييد واحتجاج، أما التماثيل الجميلة فللسياح فقط وداخل متاحف.
إنها ولا شك مهمة شاقة، أن تسحب الجمال من الساحات والميادين والمدن وتتركها غليظة ليس فقط على عين الناظر بل وعلى قلبه أيضا.